الفتنة أخطر عقوبة. والخيانة ونتائجها المدمرة
أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ ألا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبَّل الله منَّا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبَّل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبق في الآيات المباركة التي تحدثنا على ضوئها في محاضرات الأمس وما قبل الأمس مواضيع مهمة، في غاية الأهمية، ولربما نحن في هذه المرحلة في أمسِّ الحاجة إلى الاستفادة من تلك الآيات المباركة، والاهتداء بما فيها من هديٍ عظيمٍ له علاقةٌ بصلاح واقعنا، المسلمون اليوم في أمسِّ الحاجة إلى إصلاح واقعهم، وإصلاح واقعهم يتطلب أن تكون منطلقاتهم منطلقاتٍ صحيحة، وأن يعتمدوا على رؤيةٍ صحيحة، وأيُّ رؤيةٍ أهدى مما يقدِّمه القرآن الكريم، من منطلق حكمة الله وتعليماته العظيمة!
استعراض لأهم النقاط في محاضرة الأمس
ونجد في الآيات المباركة التي قرأناها وتحدثنا على ضوئها في المحاضرات السابقة ما يلفت نظرنا إلى أن نتوجه بجدية والتزامٍ عملي في التعامل مع توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، فأتى الحديث عن الطاعة والالتزام العملي؛ لكي نتعامل مع أوامر الله -سبحانه وتعالى-، مع هديه، مع تعليماته وتوجيهاته، بتنفيذٍ والتزامٍ عملي، فنعيش ثمرتها، وتتحقق لنا النتائج التي هي رهنٌ للالتزام العملي، وللتطبيق، وللتنفيذ.
ثم أتى التحذير الشديد من أن تتحول العلاقة مع هدى الله -سبحانه وتعالى- إلى علاقة استماعٍ روتيني، يتعوَّد الإنسان أن يسمع بشكل عادي جدًّا، وبدون أي اهتداء، ولا تأثر، ولا استفادة، ثم بدون أي انطلاقة عملية على ضوء تلك التعليمات والتوجيهات التي سمعها الإنسان من هدى الله -سبحانه وتعالى-، هذه الحالة التي لها آثار ونتائج خطيرة على الإنسان، حيث يصاب بالخذلان، فيتحول في واقعه وكأنه أصم لا يسمع شيئاً، وكأنه أبكم لا ينطق، وكأنه ممن لا يفهمون شيئاً، ولا يعقلون شيئاً، حالة من الخذلان الخطير جدًّا على الإنسان.
ثم أتى النداء من جديد بقول الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال: من الآية 24]، وأشرنا بالأمس إلى أنَّ هذه الآية المباركة تركِّز على التوجيهات التي عادةً ما يتهرب الناس منها، وهي تتجه إلى ما فيه إحياءٌ للإنسان كشخص، تحيي فيه روح العزة والإيمان، روح الشعور بالمسؤولية، تحيي فيه القيم الإيمانية، تحيي فيه وتنمِّي فيه مشاعر الخير، ومشاعر الكرامة، ذات أثر كبير يدفع الإنسان ليتحرك عملياً في واقع هذه الحياة، فيما يقابل ذلك الحالة التي هي أشبه بالموت، يموت في الإنسان الخير والرشد والعزة والكرامة؛ فيجمد في هذه الحياة، ويكون له دور سلبي في هذه الحياة.
أو على المستوى الجماعي، {لِمَا يُحْيِيكُمْ} على المستوى الجماعي، تأتي الدعوة من الله -سبحانه وتعالى- في مواقف كثيرة، يعني: ذات علاقة بالمسؤولية، ذات صلة بالمسؤولية، تحيينا، تحيي فينا العزة والكرامة، تحيي وضعنا وواقعنا وتصلحه، تبنينا لنكون أمةً قويةً، تحركنا لنكون أمةً منطلقةً بشكلٍ عملي، تبني نفسها لتكون قويةً، وتواجه التحديات والأخطار، وتنهض بمسؤولياتها وواجباتها، وتعمل على معالجة مشاكلها، وتصلح الخلل في داخلها، فهذا الجانب العملي الذي فيه حياة الأمة، هو الذي عادةً ما يتهرب منه الناس، والنتيجة هي النتيجة التي يعاني منها مجتمعنا الإسلامي إلى حدٍ كبير.
أتت بعد ذلك التحذيرات الشديدة، منها أول تحذيرٍ وهو قوله -جلَّ شأنه-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}[الأنفال: من الآية 24]، فيما يعنيه ذلك من خذلان رهيب للإنسان، تفسد نفسيته، تفسد مشاعره، تتغير توجهاته واهتماماته، يُطبَع على قلبه، فيصل إلى مرحلة معينة يفقد فيها كل الدافع للاستجابة، حتى لو تبيَّن له أهمية ذلك الموضوع، أو كان من أهم الأمور، أو كانت مسألة من أهم المسائل، أو خطراً من أكبر الأخطار على الأمة، فهو قد فقد الدافع للاستجابة العملية.
جاء التحذير أيضاً والتذكير بالحشر والرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى-، وأن تقاعس الإنسان وتخاذله سيحمله أوزاراً خطيرة؛ لأنه هو من جانب: تخاذُلٌ، وتنصل عن المسؤولية، وتفريط وعصيان، وهو من جانبٍ آخر: إسهام في كل ما يترتب على ذلك من نتائج لصالح أعداء الأمة، أو نتائج سلبية في الواقع، وهذه الآثار والنتائج لموقف الإنسان في تخاذله، في عدم استجابته العملية، هي من أخطر الأشياء على الإنسان؛ لأنها تجعل من هذا الذنب ذنباً عظيماً، وتجعل منه وزراً كبيراً، فليست حدود ذنبك أنك قعدت، تخاذلت، لم تستجب عملياً لهذه الدعوة من الله -سبحانه وتعالى- فيما فيه حياة الأمة، قوة الأمة، عزة الأمة، منعة الأمة، صلاح واقع الأمة، انتظام أمر الأمة، أنت ذنبك يتعدى مسألة القعود إلى النتائج، يمثِّل إسهاماً لصالح مَنْ؟ لصالح العدو، ويمثِّل إسهاماً في إماتة الأمة، إضعافها، وتحويل واقعها إلى واقعٍ سلبيٍ متردٍ منهارٍ، ويتحول ذلك الواقع إلى واقع يخدم أعداء الأمة بكل ما تعنيه الكلمة، ويؤثر على الأمة، حينها تكون نتائج هذا العمل محسوبةً عليك وزراً عظيماً، وذنباً فظيعاً يحاسبك الله عليه يوم القيامة، بكل ما يترتب عليه من تداعيات ونتائج خطيرة وسلبية.
للأهمية والتذكير: الفتنة.. وأشكالها ومخاطرها
ثم أتى التحذير من الفتنة، وأنَّ هذا النوع من الناس المتنصلين عن المسؤولية، المتهربين من الاستجابة لما فيه حياة الأمة، لا بدَّ لهم من هذه الفتنة، والفتنة- كما أشرنا في حديثنا بالأمس- لها أشكال كثيرة؛ وإنما أعدنا التذكير لأهمية هذه المسألة، وللربط ما بينها وبين ما سيأتي في الآية القرآنية التي نتحدث عنها في درس اليوم.
الفتنة لها أشكال متعددة، منها: الزيغ، أن يخذلك الله، وأن يزيغ قلبك نتيجةً لهذا الخذلان والعياذ بالله، فربما تتغير فكرتك بالكامل، ربما تتحول إلى إنسان مؤيدٍ للباطل، ربما تتحول إلى إنسان معارض للحق، وبالخذلان والزيغ ترى في الحق باطلاً، وفي الباطل حقاً، تميل إلى أعداء الأمة، تنظر نظرةً سلبيةً ومعقدة تجاه الأمة، وتجاه الذين آمنوا، تجاه الذين يتحركون في إطار الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى- لما فيه حياة الأمة، بل ترى في جهودهم واهتماماتهم وأعمالهم، ترى فيها أعمالاً غير إيجابية، وتنظر إليها بسلبية شديدة، هذا من الفتنة، من الخذلان.
قد تكون الفتنة في الواقع العملي: أن تغرق في مشاكل شخصية وهامشية، تعطيها جهدك، واهتمامك، وتوجهك، في الوقت الذي انصرفت فيه كلياً معرضاً ومتجاهلاً للمسؤوليات الكبرى، وابتعدت عن الاستجابة العملية لما فيه حياة الأمة، فاتجهت بدافع العقد الشخصية، وبدافع النظرة الأنانية الضيِّقة لاهتمامات أخرى، تثير فيها إشكالات، وتصنع فيها جواً سلبياً، وتساهم فيها سلباً بدورٍ تخريبي في داخل الأمة، وهذه من الفتنة.
أيضاً على المستوى الجماعي، قد تتخاذل منطقة معينة، أو مجتمع معين، فلا يتحركون للاستجابة العملية فيما فيه عزة الأمة، وقوتها، وحياتها، حياة الإيمان والعزة والكرامة، ثم يغرقون في مشاكل اجتماعية، وصراعات تافهة، يمكن حلها بأبسط الأمور: بالصلح والتراضي، أو بالحكم الشرعي (القضاء)، لكنهم غرقوا في هذه المشكلة، وفي هذه المشكلة، واستُنزفوا فيها، وقد يتجه البعض في هذا النوع من الفتن بنشاط، باهتمام، بجد، بجرأة، بشجاعة، بتضحية، ببذل، بتقدِمة، في الوقت الذي هو متكاسل، متخاذل، جامد، بخيل، جبان، تجاه القضايا المهمة والمسؤوليات الكبرى، التي فيها الحفاظ على عزة الأمة، واستقلالها، وكرامتها، وحيويتها، في هذا الاتجاه يفقد كل العناصر اللازمة للتحرك، فلا هو سخيٌ، ولا هو شجاعٌ، ولا هو جريءٌ، ولا هو نشيط، لكنه في الاتجاهات السلبية يبرز كفارس من فرسان الميدان، وسبَّاق، ومبادر، ونشيط، ومهتم، وتتحرك عنده المشاعر السلبية جدًّا: مشاعر الكبر والغرور، فيزداد سوءاً إلى ما هو عليه.
أشكال الفتنة كثيرة وخطيرة، وهي النتائج الحتمية لعدم الاستجابة لله والرسول فيما فيه حياة الأمة، فالإنسان إذا لم يتجه هذا الاتجاه الإيجابي، فيكون هو الذي يعطيه فكره، اهتمامه، جهده، نشاطه، يبني عليه مسيرته العملية؛ فسيتجه الاتجاه السلبي، الإنسان لا يبقى في حالة فراغ، حتى البعض ممن يفكر في مرحلة من المراحل في التقاعد عن واجباته الدينية والإيمانية والجهادية، نتيجة مشاكل معينة، أو عقد معينة، أو ظروف معينة، قد يخيل إليه- في بادئ الأمر- أنه سيجلس بشكل عادي، قد لا يمكن ذلك، قد لا يتهيأ له ذلك؛ لأنه سينشغل بتبرير موقفه، عملية التبرير هذه يحتاج فيها إلى سلبيات كبيرة، إلى ذنوب كبيرة: يحتاج فيها إلى توجيه الإساءات والتهم إلى الآخرين، تهم ظالمة، وإساءات كبيرة وظالمة، يحتاج فيها إلى تقديم مسوغات للقعود والتنصل عن المسؤولية، وأي مسوغات للقعود والتنصل عن المسؤولية هي تعارض القرآن الكريم؛ لأن توجيهاته توجيهات عملية، تحريك، فعندما يتحرك بهذا الشكل هو يتجه بعيداً عن القرآن الكريم، عن هديه ونوره، عن توجيهات الله فيه، ثم يتجه- فيما بعد ذلك- سلباً، مع الفراغ يبدأ يتحرك: إمَّا بالتناجي بالإثم والعدوان والمعصية والإساءة، وإمَّا بنشر حالة من التذمر والاستياء، ولعب دور تخريبي في الواقع، وهذه من الفتنة التي قد يقع فيها الإنسان عندما يفقد استجابته العملية لله -سبحانه وتعالى-، وينصرف ويبتعد عما فيه حياة الأمة، وعزتها، وقوتها، وكرامتها.
تذكر ما قبل وما بعد التمكين ودوره في الشد نحو الله
بعد ذلك أتى التذكير للذين آمنوا بما كانوا فيه من ضعف، من قلة، من إمكانيات بسيطة، من معاناة كبيرة، من خوف، ثم النقلة التي تحققت في الواقع، كما أشرنا هناك دروس كثيرة من هذه الآية المباركة:
ما قبل التمكين هي تعطي أملاً في التمكين الإلهي، يعني: عندما يبدأ الناس في مسيرتهم الإيمانية عادةً ما يبدؤون من ظروفٍ كهذه: ظروف فيها قلة، فيها استضعاف، فيها ظروف قاسية وصعبة، وإمكانات مادية بسيطة جدًّا، مخاوف كبيرة، وضعية: {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ}[الأنفال: من الآية26]، يعيش الناس حالة الغربة، يعيش الذين ينطلقون في مسيرتهم الإيمانية في بداية الأمر هذه الحالة من الغربة، في واقعٍ يختلف معهم، يحاربهم، يلومُهم، ينتقدهم، يأتي الأعداء بأشكال وألوان وفئات متعددة، فالله -سبحانه وتعالى- يعطي أملاً إذا انطلق الناس من وضعية كهذه أنهم سيصلون إلى هذه الوضعية المتقدِّمة، وسينتقلون من واقعهم (ذلك الواقع الصعب) إلى واقعٍ آخر يختلف.
ما بعد التمكين أيضاً في هذه الآية المباركة تذكيرٌ مهم ، تذكيرٌ بفضل الله -سبحانه وتعالى-، بنعمته التي يجب أن تزيدنا انشداداً إلى الله، وأن تزيد في نظرنا وفي نفوسنا من قيمة توجيهات الله وتعليماته، عندما نعيش ثمرتها، وقد عشنا وضعية الانتقال من تلك المرحلة الصعبة جدًّا إلى واقعٍ متقدِّمٍ فيه نصر، فيه تأييد، فيه سعةٌ في الحال عمَّا كان عليه الوضع السابق، ومقارنةً بما كان عليه الحال السابق، فيه كذلك استجابة واسعة على مستوى المجتمع، ومستوى الناس، فيه إيواء من الله -سبحانه وتعالى-، هذه الحالة يجب أن تزيدنا انشداداً إلى الله، محبةً لله، خوفاً من الله، تعظيماً لله، حياءً من الله، ثقةً بالله -سبحانه وتعالى-، وتوكلاً على الله، وأن تزيد من إدراكنا لقيمة وعظمة التوجيهات الإلهية، التي عندما نسير عليها، ونلتزم بها، ونتوكل على الله -سبحانه وتعالى-، يترتب عليها نتائج في واقع حياتنا، ونتائج مهمة بالنسبة لنا: النصر، العزة، التمكين، السعة في الحال، اليسر بعد العسر، الفرج بعد الشدة… كلها أمور مهمة.
الحسابات الشخصية بدل المنطلقات الإيمانية!
الإنسان إذا لم يعد يتذكر هذه النقلة، هذه النعمة، هذه الرعاية؛ فهو سيتجه اتجاهاً مختلفاً: سيبطر، يعيش البطر والطغيان، وسيفتر في نشاطه العملي؛ لأن البعض من الناس في مثل هذه الظروف يتجه نحو الانشغال بمتع هذه الحياة، نحو الانشغال بتحقيق المكاسب الشخصية والمصالح الشخصية، ويتجه أيضاً بدافعٍ نفسيٍ سلبي ليركز على المواقع المعنوية: مناصب معينة، إبراز للشخصية، يختل عنده إخلاصه لله -سبحانه وتعالى-، تأتي الشوائب الكثيرة إلى منطلقاته، يفقد تلك المنطلقات التي كان يتحرك بها في بداية الأمر، كانت منطلقات ودوافع إيمانية خالصة.
بعد التمكين أصبحت الدوافع مشوبةً بالحرص على المناصب، بالحرص على المواقع المهمة في مراتب المسؤولية، بالحرص على المال، بالحرص على الطمع، بالحرص على التوسع في الرفاهية… وهكذا اتجاهات سلبية، في نهاية المطاف لها أثر خطير على مدى استجابتك العملية لله -سبحانه وتعالى-، مثل هذا النوع من الناس يغلب عليهم المزاج الشخصي في مدى تفاعلهم مع الأعمال، مع التوجيهات، مع ما يُدعَون إليه مما فيه حياة الأمة، حينها لأن منطلقاته قد تغيَّرت؛ لم يعد كما كان سابقاً، فحينها يأتي ليتعامل مع الأمور من منطلق مزاجه الشخصي: أعجبه الأمر؛ استجاب، لم يعجبه؛ لم يستجب.
فيما قبل كان منطلقاً انطلاقةً سليمةً من مثل هذه الشوائب، يتحرك كجنديٍ لله، فيما بعد أصبحت عنده الشروط، والمعايير الشخصية، والمطالب الشخصية، والمقاصد الشخصية، والاعتبارات الشخصية؛ لأنه فقد منطلقه الإيماني، ربما البعض لم يشعر بأنه قد فقد منطلقه الإيماني، لكنه لو يفكر ويتأمل جيداً، ويقارن بين وضعيته ما بعد التمكين والنعمة والتأييد الإلهي، وما قبل في بداية الأمور، كيف كان يوم ذاك، يوم كانت منطلقاته صحيحة، هل كان يشترط مثل هذه الشروط؟ هل كان يحسب هذه الحسابات الشخصية الطويلة العريضة؟ أم أنه كان ينطلق من منطلق الحرص على ما فيه رضا الله -سبحانه وتعالى-؟
هذا درسٌ مهم، وهذه المسألة يمر بها كل الذين ينطلقون في إطار المسيرة الإيمانية في كل زمانٍ ومكان، وتأتي إليهم الكثير من الإشكالات التي أتت حتى في صدر الإسلام، التي وقعت في واقع المسلمين في زمن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، وهم أول من ذكِّروا بهذه الآيات، وهم أول من توجهت إليهم هذه الآيات بما فيها من تحذيرات، وبما فيها أيضاً من ترغيب، ومن تنبيه على النعمة الإلهية، والتقدير لها والشكر لها كيف يكون من خلال الاستجابة العملية، وألَّا يفقد الإنسان توجهه الصحيح المبني على الاستجابة العملية؛ لأن البعض لم يعد يستجيب، عندما يصل إلى هذه المرحلة: إمَّا أصيب بالفتور، والكسل، والخمول، والتوجه نحو الراحة، والمصالح الشخصية، وإمَّا أصيب بالغرور والكبر، وأصبح يرى لنفسه الفضل وليس لله -سبحانه وتعالى-، لم يعد يذكر أنَّ الذي آوى، وأنَّ الذي أيَّد، وأنَّ الذي نصر، وأنَّ الذي مكَّن هو الله، وليس أنت، أنت عبد ضعيف عاجز.
{فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[الأنفال: من الآية 26]، النتيجة الصحيحة في واقع الإنسان الذي يستمر في المسار الصحيح هي: الشكر، وحالة الشكر هي حالة عملية، فيها: استمرار في الاستجابة العملية، انشداد إلى الله -سبحانه وتعالى-، استشعار لفضل الله -سبحانه وتعالى- ونعمته، واستشعار أنَّ الفضل لله، فالإنسان – إذا كان شاكراً- سيزداد في توجهه الإيجابي، في استجابته العملية، في انطلاقته الصحيحة، في اهتماماته العملية في الاتجاه الصحيح.
الخيانة أشكالها ودوافعها ونتائجها السيئة
خيانة الله والرسول!
أتى بعد ذلك الآية القرآنية المباركة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال: 27-28]، هذه آية مهمة جدًّا، والإنسان عندما يتأمل فيها يهتز وجدانه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، ينادينا الله بانتمائنا الإيماني، يخاطبنا بهذا الانتماء الإيماني، الذي مقتضاه: الطاعة لله، الاستجابة لله، الخشية من الله، الوفاء مع الله، الصدق مع الله، فيقول -جلَّ شأنه-: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}، الخيانة في طريق الحق، في العمل في سبيل الله، في المسيرة الإيمانية، هي: خيانةٌ لله -سبحانه وتعالى-، أنت في طريق الحق، في المسيرة الإيمانية، في العمل في سبيل الله، عندما تخون، فخيانتك هي خيانةٌ لمن؟ خيانةٌ لله، أنت تخون الله، وهذا ذنبٌ عظيم، وجرمٌ فظيعٌ شنيع، أن تخون الله، هل أكبر من هذا جرم؟ جرم رهيب جدًّا.
الخيانة لله لها أشكال متعددة، الخيانة لله -سبحانه وتعالى- عندما تتعامل مع العدو، أنت في المسيرة الإيمانية، في المسيرة الدينية، في مجال العمل في سبيل الله، في إطار موقف الحق، ثم تتعامل مع العدو لصالح العدو، والعدو يعمل للاستقطاب والتأثير والاختراق، من أكبر ما يركز عليه الأعداء هو: الاختراق، الاختراق للذين آمنوا في موقفهم الحق، في عملهم في سبيل الله، في إطار ما هم فيه من عمل ومسؤولية، ويستخدمون الكثير من الوسائل لتحقيق هذا الاختراق وللاستقطاب، والبعض من الناس هو معرَّضٌ -أصلاً- أن يتجه هو شخصياً ابتداءً، قبل أن يصل الأعداء إليه بوسيلة من وسائل الاختراق والاستقطاب، عندما يخذل، عندما يفتن، عندما يتجه الاتجاه السلبي، قد يتجه هو ليعمل لصالح الأعداء: إما بدافع الانتقام والحقد؛ بسبب أمور شخصية، قضايا شخصية، عقد شخصية، وإما بدافع الطمع في المادة، وإما من واقع الاستهتار بالأمور، والاستهتار بالمسؤولية، وينظر إلى الواقع وإلى الأحداث وكأنها مسألة بيع وشراء، ومواقف وأمور شخصية، ومكاسب شخصية، ويريد أن يفتح له فيها نافذة… دوافع متعددة وكثيرة يمكن أن تدفع الإنسان للخيانة: الطمع، المخاوف، العقد الشخصية والضغائن والأحقاد… عوامل أخرى يمكن أن تدفع الإنسان للخيانة، فيقدم شيئاً لصالح العدو، قد يقدم هذا الشيء الذي لصالح العدو ولو لم يكن محباً للعدو، لكن في ذلك الذي قدمه خدمة للعدو، عندما تعمل ما هو خدمة للعدو، عندما تقدم ما هو خدمةً للعدو بأي دافع: بدافعٍ مادي، بدافع الحقد، بدافع الطمع، بدافع المخاوف… بأي دافع، فأنت هنا تخون الله، تخون الله -سبحانه وتعالى-، وتخون الرسول.
عندما يتجه الإنسان أيضاً لدورٍ تخريبي يمسَّ بالمسيرة الإيمانية والدينية والعمل في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، وهو يعلم ذلك، يتجه اتجاهاً لذلك (لهذا الدور التخريبي)، فهو أيضاً يخون الله، هذا من أشكال الخيانة، يعني مثلما التعامل لصالح العدو من أشكال الخيانة، فالتوجه للعب دور تخريبي داخلي يعد من أشكال الخيانة، وجرمها كبير وعظيم.
الخيانة في المسؤوليات والحقوق العامة
{وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، الخيانة للأمانة عنوانٌ واسع يندرج تحته الكثير الكثير من التفاصيل، فما تؤتمن عليه، سواءً عملاً، أو إمكانيات مادية، أو مالاً، أو وديعة، ما تؤتمن عليه من حقٍ عام، أو من حقٍ خاص، من حقٍ عام يتعلق بحق الأمة، أنت في موقع مسؤولية من المسؤوليات العامة، سواءً على المستوى العسكري، المستوى الأمني، المستوى الاقتصادي، المستوى الإداري، المستوى القضائي… في أي موقع من مواقع المسؤولية كنت، وتؤتمن في هذا الموقع، في هذه المسؤولية، أنت هنا تؤتمن على عملٍ تؤديه، وعلى مسؤوليةٍ تتحملها، وأيضاً قد تؤتمن- إضافةً إلى ذلك- على إمكانيات مادية في إطار هذه المسؤولية: إما مالاً نقدياً مثلاً، أو إمكانيات ووسائل تستعين بها في عملك، ما كان ضمن هذه الأمانة عندما تتصرف فيه لمصلحةٍ شخصية خارج إطار المسموح، فأنت تخون، عندما تخون في أدائك العملي بتصرف يخرب هذا العمل، أو يسيء إلى هذا العمل، أو تفرط عمداً في أشياء تؤثر على هذا العمل، تؤثر على هذه المسؤولية، فهي خيانة في نفس العمل، وأنت اؤتمنت على العمل، اؤتمنت على هذه المسؤولية، أو عندما تتجه خيانتك نحو تلك الإمكانات المادية التي هي لهذا العمل من مال أو غيره، فتأخذ منها، وتصادرها- على حساب هذا العمل- لمصالحك الشخصية، لاتجاهات شخصية، فهذه خيانة.
ويأتي هنا الحديث عن الفساد في الدولة مثلاً، وفي المسؤوليات العامة، وفي المسؤوليات الجهادية، في إطار كل مسؤولية يتحرك الإنسان فيها معتمداً على إمكانات تأتي لصالح هذه المسؤولية، ولدعم هذه المسؤولية، ويطول الحديث ويكثر الحديث حول خطورة الفساد، الفساد في موقع المسؤولية، سواءً في الدولة، أو خارج الدولة، أنت في أي مسؤولية من المسؤوليات، أنت عندما تقتني إمكانيات معينة لصالح هذه المسؤولية يجب أن تحذر من الخيانة، الخيانة ذنبٌ عظيم، وجرمٌ كبير، والخيانة من أخطر الأشياء التي تؤثر سلباً على الأمة في أعمالها، وفي نجاحها، وفي فلاحها، ولها تأثيرات خطيرة جدًّا، تأثيرات على المستوى النفسي، الإنسان إذا خان أمانته تتغير نفسيته، يخسر من إيمانه، يخسر في مشاعره، يخسر من زكاء نفسه، من طهارة مشاعره، وتعظم وتكبر هذه الحالة السلبية في واقعه النفسي؛ حتى يفقد المشاعر الإنسانية الإيجابية ويكون جريئاً على الخيانة، من المهم أن يتذكر الإنسان عدة أمور:
أولاً: قُبح الخيانة، الخيانة لها قبحها الشنيع، اسمها- بنفسه- يدل على قبحها وشناعتها، الخيانة تعتبر جرماً تسيء فيه إلى نفسك، وأنت – بالخيانة – تخل بإنسانيتك، بكرامتك، بشرفك، بعزتك، وأنت تنزل إلى حالة دناءة في واقعك النفسي والحياتي، الخيانة دناءة، الخيانة انحطاط، الخيانة سرقة وزيادة، سرقة وأكثر، الإنسان الخائن للأمانة يتحول إلى إنسان سيء جدًّا، من أسوأ الناس، مثلما الأمانة والوفاء من أجمل وأرقى القيم، وأعظم القيم؛ فالخيانة من أسوأ الجرائم، وأقبح الذنوب، وأسوأ المعاصي، هي دناءة، هي انحطاط، هي خسة، هي لؤم.
تأثير الخيانة على مستوى الواقع العام
والإنسان أيضاً مع ذلك يؤثر سلباً على الواقع العملي، الخيانة تنتقص من فرص النجاح في الأداء العملي، وإذا انتشرت الخيانة، انتشر الفساد، يؤثر هذا على مستوى الواقع العام تأثيراً سلبياً، يستنزف الطاقات والإمكانات التي للأمة، ثم يؤثر على الواقع العملي تتجه اهتمامات الناس إلى هذه الجوانب المادية؛ فيصبح جاهزاً للإخلال بعمل، أو لتخريب عمل، أو للعب في العمل، تدخل الأطماع والأهواء لتؤثر في نفس أداء المسؤولية، في نفس الأداء العملي؛ فتترك تأثيرها السلبي على فرص نجاح العمل، ويتحول دور الإنسان الخائن إلى دورٍ سلبيٍ يهدد العمل، يهدد المسؤولية، يهدد الأمة، تمتد آثار خيانته لتترك تأثيرات سيئة في واقع الناس، يترتب عليها الظلم، يترتب عليها خلل كبير في العمل، يترتب عليها الفشل، فتمتد آثار عمله إلى الواقع العملي من جوانب كثيرة، ويمتد الذنب ويكبر الوزر بحسب ذلك، فهي مسألة خطيرة جدًّا، فخيانة الأمانة منها ما يتجه إلى الحق العام الذي يتعلق بالمسؤولية، في الدولة أو في غير الدولة، في الأعمال الجهادية… في أي مجال من مجالات العمل.
والإنسان إذا انحط ورضي لنفسه بالدناءة؛ فقد يخون في ظروف حتى ظروف عجيبة، ظروف مأساوية، الخيانة والأمة تعاني من ظروف صعبة جدًّا، لا يليق بالإنسان فيها أن يفكر حتى التفكير بالخيانة، والأمة تعاني من ظروف صعبة وعصيبة ومعاناة كبيرة جدًّا، قد تكون الخيانة على حساب مال تأخذه لنفسك شخصياً، والذي قدمه إنما قدمه من ظروف صعبة؛ ليساهم به في موقف الحق، ليساهم به في النصرة للأمة، في دفع الخطر عنها، ليساهم به في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، فتأتي أنت فتأخذ ذلك الحق، تلك المساهمة التي ساهم بها من ساهم من ظروف صعبة، آثر على نفسه، على معيشته؛ فيكون هذا جرماً عظيماً وشنيعاً، ووزراً كبيراً.
الخيانة خارج الإطار العام
الخيانة للأمانة أيضاً في خارج المال العام والحق العام، والإمكانات العامة التي تتعلق بالمسؤوليات، والنوع الآخر من الخيانة: هو الذي يتجه إلى حقوق الآخرين، ما هي مستحقات للآخرين، أو ممتلكات للآخرين، ما اؤتمنت عليه من حقٍ شخصيٍ لآخر، هذا أيضاً من الأمانات التي يجب صيانتها والوفاء بها، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء: من الآية 58]، عندما يأتمنك إنسان على مال، أو شيء من الممتلكات، أو شيء من الحقوق، فمن الخيانة أن تأخذه أو تضيعه عليه، وتحاول أن لا تعيده إليه، وأن تخفيه عنه، خيانة شنيعة، وذنب عظيم، وأمر سيء جدًّا، ودناءة وانحطاط.
من الخيانة: الخيانة في الأسرار (الأسرار العملية)، عندما يسرّبها الإنسان إلى العدو، أو شخص يأتمنك على سرٍ شخصي وتفشيه بغير حق… وما شابه ذلك، مجال الخيانة مجال واسع، وهو مجال خطير جدًّا ومجال سلبي جدًّا على الناس في حياتهم، في أعمالهم، في علاقاتهم، ويمس بالعدالة، يمس بالقيم يترك تأثيرات سيئة على الناس في واقعهم النفسي تجاه بعضهم البعض، عندما يفقدون الاطمئنان على بعضهم البعض، عندما يسود بينهم الخوف والقلق من بعضهم البعض، وعدم الائتمان لبعضهم البعض، حالة خطيرة جدًّا، تترك تأثيرات سلبية حتى على مدى الاستجابة العملية.
البعض من الناس مثلاً ما بعد التمكين الإلهي قد يخون؛ لأنه اتجه بحرص نحو التركيز على الرفاهية، على الأطماع المادية، على المقاصد الشخصية، البعض في إطار المسؤولية قد يمكَّن من إمكانات مالية أو مادية فلا يتحمل؛ عنده ضعف إيمان، وضعف قيم ووفاء، ضعف إنسانية، فيخون؛ نتيجةً للأطماع والأهواء، {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال: 27 ]، أنتم تعلمون قبح الخيانة، جرم الخيانة، سوء الخيانة، ذنب الخيانة، وأنها من الجرائم الشنيعة للغاية، وعليها الحساب والعقاب في الدنيا والآخرة، في الدنيا الله قد يصيبك بمصائب كبيرة جدًّا؛ نتيجةً للخيانة، وقد تدخل في متاهات لم تكن تتوقعها، وتصل إلى أمور لم تكن تتخيلها؛ نتيجةً لخيانتك، وأنت تحبط عملك- إذا كنت ممن له رصيد عملي- تحبط عملك بالخيانة، تورط نفسك بالخيانة، إذا كان دافع هذه الخيانة دافع مادي، أنت تحرص على أن تكون صاحب أموال، وتحوز ممتلكات، واتجهت للخيانة للحصول على ذلك، للحصول على المال وتنمية المال، أو من أجل أولادك وأسرتك تحت عنوان (تأمين مستقبلهم)، فاتجهت للخيانة؛ لتجهز لك مثلاً: بيتاً شخصياً، وتجهز لك ممتلكات شخصية ومكاسب شخصية من خلال الخيانة لهذه الأمانة، ما كان منها: إما حقاً عاماً يتعلق بالمسؤولية، أو حقاً خاصاً.
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، اختبار تختبرون بهما، ولذلك أنت في حالة اختبار، إذا سقطت في هذا الاختبار، واتجهت اتجاهاً خاطئاً، فأنت ستتحمل الوزر والإثم والذنب، وتورط نفسك؛ بينما كان بالإمكان إذا كنت ترغب أن تحصل على الخير، أن تحصل على الرعاية الإلهية الواسعة، فالاتجاه لذلك كان عبر الطاعة، عبر الاستقامة، عبر التوجه إلى الله -سبحانه وتعالى-، عبر الاعتماد على الوسائل المشروعة والحلال.
الطريق الصحيح لنيل الخير والسعادة
{وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، والأجر العظيم من الله -سبحانه وتعالى- يأتي منه جزءٌ في الدنيا، ويوفى الإنسان الجزاء العظيم والأجر الوافي في الآخرة، وهو عظيم، هذا ترغيب كبير في أن الطريق إلى الخير، الطريق إلى الرعاية الإلهية، الطريق إلى الحصول على فضل الله -سبحانه وتعالى- هو بطاعة الله، هو بالاستقامة، هو بالوفاء والأمانة، الله سيعطيك الأجر العظيم، الخيانة تفوت عليك بها الجنة بكلها، يفوت عليك بسببها النعيم الأبدي، السعادة الدائمة، يفوت عليك كل ذلك النعيم الذي ذكره القرآن الكريم في الجنة: قصورها، بساتينها، مزارعها، مأكولاتها، مشروباتها، ملابسها، السعادة فيها، الصحة الدائمة، الحياة الأبدية في ذلك النعيم والراحة والرفاهية، كل ذلك تخسره من أجل شيءٍ تافه، والبديل بسبب الخيانة هو النار.
قد تكون الخيانة لصالح أن تبني لك بيتاً شخصياً، فتكون النتيجة بيتاً في جهنم، حالة رهيبة جدًّا، مساكن في جهنم، أماكن ضيقة في قعر جهنم، {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}[الفرقان: 13-14].
قد تكون الخيانة لصالح أن تعيش حياة الرفاهية في طعامك، في شرابك، في ملبسك، ثم يكون البديل عنها تلك الوجبات في جهنم: الزقوم، الضريع، الصديد الذي تسقاه وتشربه، بدلاً عن العصائر والمشروبات التي خنت من أجلها في الدنيا، وأنت تسعى للرفاهية الزائدة في حياتك. القات الله أعلم ما هو الذي سيكون بديلاً عنه في جهنم! لكن المسألة خطيرة جدًّا.
الخيانة خطيرة جدًّا، ويمكن أن يتعرض لها الإنسان، ويمكن أن يتعرض لها الذين آمنوا بعد التمكين، إن لم يستقيموا، إن لم يحرصوا على الوفاء، إن لم يحرصوا على أن يكون مسارهم العملي مساراً صحيحاً، يؤسس لعلاقة دائمة مع الله، علاقة قائمة على الاستجابة العملية، على الشكر لله -سبحانه وتعالى-، وبالشكر يتحقق كل خير، الله هو القائل في كتابه الكريم: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم: من الآية7]، الشكر زيادة في الخير، سعة في الحال، فضل من الله -سبحانه وتعالى-، يعطي الإنسان، والله عنده كما قال: {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
من ثمار التقوى العظيمة: الفرقان والغفران
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الأنفال: الآية29]، فإذا اتجه الإنسان على أساس أن يتقي الله -سبحانه وتعالى-، فتقوى الله -سبحانه وتعالى- هي التي يبنى عليها الخير الكبير، في مقابل الخيانة التي هي خطيرة على الإنسان، تقوى الله يترتب عليها هذا العطاء الإلهي العظيم، وجمع كل ذلك عبارة مهمة: {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، (فُرْقَانًا) يشمل الهداية والتنوير الإلهي، في مقابل: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ}[الأنفال: 21-22].
الإنسان في مسيرته العملية: إما أن يتجه اتجاهاً يفقد فيه فهمه، نظرته الصائبة، تفكيره السليم، تصوره الصحيح، تقييمه الصحيح، ويتحول من تلك الفئة: الصم البكم الذين لا يعقلون، يصبح إنساناً لا يفهم ولا يعي، إنساناً ينطلق في نظرته للأمور من منطلقات خاطئة، فتكون نظرته خاطئة، ويكون تفكيره خاطئاً، وتكون تقييماته للأمور تقييمات خاطئة؛ لأن منطلقاته من الأساس أصبحت خاطئة.
وإما أن يتجه الإنسان اتجاهاً صحيحاً، فيزيده الله هدايةً، وزكاءً، ونوراً، وتوفيقاً، وبصيرةً؛ فيكبر وعيه، وتزداد نظرته صواباً، وإدراكه كذلك يكون أكثر دقةً، بهدايةٍ من الله -سبحانه وتعالى-، نتيجة التزامه بالتقوى.
فالالتزام بالتقوى له أهمية كبيرة جدًّا في أن يمنحك الله النور، والبصيرة، والفهم الصحيح، ولهذا أهمية كبيرة في التصرف: في العمل، في القرار، في السلوك، تأتي هذه الثمرة إلى واقعك العملي، تكون تصرفاتك تصرفات مبنية على رؤية صحيحة، على فهم صحيح، تكون قراراتك قرارات مبنية على رؤية صحيحة وفهم صحيح، وبهداية من الله، وتنوير من الله -سبحانه وتعالى-، أعمالك، توجهاتك، خططك، ترتيباتك العملية.
وأيضاً الفرقان في الواقع، فهذا الفرقان هو فرقانٌ في حالكم، في واقعكم، في نظرتكم للأمور، في فهمكم، فرقان تفرق به بين الحق والباطل، بين الصواب والخطأ، بين الاتجاه الصحيح والاتجاه غير الصحيح، التصرف الصحيح والتصرف غير الصحيح، العمل المناسب والعمل غير المناسب، وفرقان في واقعكم، تنتقلون من وضعية إلى وضعية أفضل، إلى واقعٍ أكثر تمكيناً، وأحسن حالاً وسعةً، وعلى مستوى الرزق، والبركات، والخيرات، والتوفيقات العملية، والنجاحات في الواقع العملي، تتحقق لكم المزيد من النجاحات في مسؤولياتكم، وفي أعمالكم، وفي الميدان كذلك.
فهذه الآية الكريمة تقدم لنا ثمرة التقوى، الثمرة العظيمة جدًّا، في مقابل قبح الخيانة، ومساوئ الخيانة، وما يترتب على الخيانة من نتائج خطيرة جدًّا تؤثر على الأمة في أنفسها وفي واقعها.
{وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}؛ لأن الإنسان مهما كانت استقامته العملية والتزامه العملي، قد يأتي منه التقصير، قد يأتي منه النسيان، الخطأ، الغفلة، لكن مع التقوى والتوجه الصادق نحو الله -سبحانه وتعالى-، فالله يكفر تلك السيئات، ويمحو تأثيراتها السلبية في الواقع النفسي، وفي الواقع العملي، ويوم القيامة.
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، المغفرة من الله مطلب مهم جدًّا؛ لأن الإنسان بحاجة إلى المغفرة، إذا لم يغفر الله -سبحانه وتعالى-، فالنتائج على الأخطاء، على الأعمال، على السلبيات، على الزلل؛ عقوبات لها تأثيرات كبيرة، لكن عندما يكون الاتجاه- في الأساس- اتجاهاً صحيحاً قائماً على التقوى، والرجوع المستمر إلى الله، والإنابة إلى الله، والتصحيح للخلل؛ فيأتي من الله التكفير للسيئات والمغفرة.
{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، ولذلك ففضله يسع كل ذلك: أن يجعل لكم فرقاناً، وأن يكفر عنكم السيئات، وأن يغفر لكم، وإضافات أخرى إلى ذلك، ولا يزال فضل الله أوسع وأعظم، يشمل أشياء كثيرة أخرى يمكن أن تحصلوا عليها، وأن يمنّ الله بها عليكم، إن استقمتم في مساركم العملي على أساس التقوى، والاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى-، والشكر له على تمكينه وتأييده بالنصر، وعلى أرزاقه، وما يمن به من واسع فضله.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛