أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
تحدثنا بالأمس عن خطورة الذنوب، وأهمية التوبة، وعمَّا للذنوب من تأثيرات سلبية على حياة الإنسان، والواقع أنَّ الإنسان بالذنوب وبالمعاصي هو أولاً يخالف مقتضى العبودية لله -سبحانه وتعالى- نحن عبيد الله، ونحن ملكه، وكل ما في هذا العالم هو ملكه، وكل ما نتصرف فيه في هذه الحياة، ونتحرك فيه في هذه الحياة هو ملكٌ لله -سبحانه وتعالى- فهو الرب المالك، وعندما نتصرف أي تصرف في أيٍّ مما خوَّلنا الله -سبحانه وتعالى- خارج حدود إذنه، خارج ما أذن لنا أن نتصرف فيه، فنحن نتصرف فيما لا نملك التصرف فيه، فيما لا نملك الحق أن نتصرف فيه، هذا يكون ظلماً، ولهذا توصف كل الذنوب والمعاصي بالظلم، هذا ركَّز عليه القرآن الكريم، فنحن نتصرف خارج حدود ما نملك، وبغير إذنٍ من الله -سبحانه وتعالى- الذي هو المالك الحصري لكل هذا العالم بكل ما فيه، والمالك لنا ولجوارحنا، ونحن لا نستطيع أن نتصرف خارج حدود ما خوَّلنا الله -سبحانه وتعالى- لا نملك شيئاً يكون مصدره من غير الله -سبحانه وتعالى- هذه الحياة بكل ما فيها، هذه الأرض بكل ما عليها هي من الله -سبحانه وتعالى- وهي لله -سبحانه وتعالى- فمخالفة مقتضى العبودية بالتصرف من العبد خارج حدود إذن ربه المالك -جلَّ شأنه-، بغير إذنه -سبحانه وتعالى- يعتبر مخالفةً لمقتضى العبودية الذي هو الالتزام، وألَّا نتصرف إلا في حدود ما أذن لنا فيه.
والذي أذن لنا فيه هو واسعٌ وكثيرٌ، وهو ما فيه الخير لنا، وهو ما هو طيبٌ لنا، وصالحٌ لنا، وما فيه صلاح حياتنا، ليس هناك في مسألة ما أذن فيه وما لم يأذن فيه أي اعتبارات تعود بالنفع على الله -سبحانه وتعالى- هذه من الحقائق التي يجب أن نرسِّخها في أنفسنا، ليست المسألة أنَّ الله يتحكم فينا وفي مسألة الإذن لنا لاعتبارات تعود إليه، أو منفعةٍ تعود إليه، ومصالح خاصة به. إنه -سبحانه وتعالى- أذن لنا في كل ما هو خيرٌ لنا، وفي كل ما هو صلاحٌ لحياتنا، ولم يأذن لنا في كل ما فيه مضرة على حياتنا، في كل ما له آثار سلبية على الإنسان كفرد، وعلى المجتمع من حوله، وعلى الحياة من حوله هذا أولاً.
أقل ما يلزمنا لله: أن لا نستخدم نعمه في معاصيه
وثانياً: نحن بالذنوب والمعاصي نسيء إلى ربنا المنعم الكريم، نقابل إحسانه وهو ولي كل نعمةٍ، وولي كل فضلٍ، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النحل: من الآية 53]، نقابل إحسانه العظيم وإحسانه الكبير، وكل ما بنا من نعمةٍ فمنه، بالإساءة إليه -سبحانه وتعالى- من خلال المعصية له، من خلال مخالفة توجيهاته وتعليماته -سبحانه وتعالى- وهذا أمرٌ سيءٌ بالنسبة للإنسان: أن يقابل نعم الله، وإحسان الله العظيم الكبير، وكرم الله الواسع، أن يقابله بالإساءة، وأن يستخدم نفس النعم التي أنعم بها الله عليه، وما أعطاه الله -سبحانه وتعالى- وما هو من الله -سبحانه وتعالى- يستخدمه بنفسه، يستخدمه بذاته فيما يسيء فيه إلى الله -سبحانه وتعالى- إذا كنت تفترض أنك لن تستخدم أي وسيلة، ولا أي شيء من الله -سبحانه وتعالى- حتى تقول: [أنا لم أستخدم ما هو منه في مخالفته، في الإساءة إليه]، فما هو هذا الشيء؟! هل هناك جارحة من جوارحك، حاسةٌ من حواسك، شيءٌ فيك أنت من قدراتك، من مواهبك، من ملكاتك، ليس من الله، ما هو؟ |لا| لا تملك شيئاً، كله من الله، ما خوَّلك الله فيه في هذه الحياة خارج حدود جوارحك وجسمك ونفسك، ما على هذه الحياة في محيطك كله من الله -سبحانه وتعالى- ولذلك عندما تقابل نعم الله العظيمة، كل نعمةٍ منها نعمة عظيمة جدًّا، لو تتأمل في كل نعمةٍ بمفردها كم هي عظيمة، كم فائدتها لك في هذه الحياة.
نعمة البصر، نعمة البصر من أعظم النعم، نعمة عظيمة جدًّا، كم هي أهميتها لك في كل شؤون حياتك، عندما تستخدم هذه النعمة في معصية الله بالنظر إلى الحرام، عندما تستخدم هذه النعمة وتشغلها في خدمة الباطل، أو فيما فيه فساد… أو غير ذلك.
نعمة السمع كذلك من النعم العظيمة، الجوارح: اليدين، الرجلين، كل هذه الجوارح تعتبر نعماً عظيمة من الله -سبحانه وتعالى-، عندما تستخدمها في معصية الله، اللسان والبيان الذي هو من أعظم النعم التي أنعم بها الله عليك، عندما تستخدمه في معصية الله -سبحانه وتعالى-، ثم ما يمكنك الله منه في هذه الحياة من وسائل وإمكانات فتستخدمها في معصية الله -سبحانه وتعالى-؛ أنت تقابل نعمه هو بالإساءة من خلالها إليه، وهذا أمرٌ شنيعٌ وقبيح.
وأيضاً فيما يتعلق بالمعصية، الإنسان يتعدى، كل المعاصي فيها تعدٍ وفيها اعتداء، يعتدي على الحياة من حوله؛ لأن كل الذنوب وكل المعاصي هي تصرفٌ ضار، وله آثار سيئة في هذه الحياة، فكلها تعدٍ، وكلها اعتداء.
ضبط الغريزة بضابط الأخلاق والقيم
والإنسان أيضاً يسيء إلى نفسه بالمعصية، وهذا اعتبارٌ رابع، يسيء إلى إنسانيته، ينحط في إنسانيته؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- منح هذا الإنسان في فطرته منحه من الملكات ومن عناصر الخير ما يسمو به، فلا يكون في هذه الحياة وكأنه وحش يعمل بالغريزة، ويتحرك وفق الغرائز النفسية بدون أي ضوابط ولا حدود ولا قيود، الله منح هذا الإنسان في فطرته وأودع في فطرته ما يساعده على التقوى، ما يساعده على السمو بالنفس، ما يساعده على التصرف بشكلٍ صحيح، ما يساعده على الالتزام بالقيم وبمكارم الأخلاق، ما يساعده على أن يضبط تصرفاته بضابط الأخلاق والقيم والرشد، والتصرفات الصحيحة، وبمعيار الحكمة، فهذا يعتبر شرفاً كبيراً للإنسان، ومسؤوليةً على هذا الإنسان؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- في الوقت الذي أودع فينا غرائز معينة، فهو -جلَّ شأنه- وفَّر لنا أولاً من الحلال ومما فيه الخير ما يمكن أن يستوعب غرائزنا هذه، ما يمكن أن نشغل فيه غرائزنا هذه، هو -سبحانه وتعالى- لم يودع فينا هذه الغرائز ثم يحرم علينا استغلالها، أو الاستفادة منها في أي شيء، ثم يتجه -سبحانه وتعالى- في تشريعاته وفي تعليماته إلى كبت هذه الغرائز في أنفسنا.
ليس الأمر هكذا، هو – سبحانه وتعالى – جعل لنا من الحلال الطيب ما يستوعب هذه الغرائز، وما نفعِّل فيه هذه الغرائز؛ فتؤدي هذه الغرائز دوراً إيجابياً في هذه الحياة.
ثم في نفس الوقت هو -سبحانه وتعالى- هيأ فينا وفي فطرتنا ما يساعدنا على المستوى النفسي، على المستوى المعنوي، على مستوى المشاعر والوجدان، على ضبط هذه الغرائز، وعلى أن نعمل على موازنتها؛ حتى تكون متوازنةً في هذه الحياة، وهذا هو الذي يسمو بالإنسان، لا يكون كبعض الحيوانات التي تعمل بالغريزة فقط، ليس عندها ضوابط معينة، ضوابط أخلاقية، ولا ضوابط ترتبط بمعيار الحكمة وحسن التصرف.
فالله -سبحانه وتعالى- عندما قال في القرآن الكريم عن النفس البشرية: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس: 9-10]، الإنسان يسيء إلى إنسانيته في هذا الجانب المهم فيها: الفطرة، وما أودع الله فيها من القيم، من الأخلاق، من عناصر الخير التي توجد توازناً لدى الإنسان بين غريزته وبين الجانب الأخلاقي في هذه الحياة، والقيم النبيلة في هذه الحياة، والتصرفات المتوازنة في هذه الحياة، وهذا التوازن هو الذي يدفع عن الإنسان الكثير من الشرور، الكثير من المخاطر، الكثير من الأضرار، وهذا التوازن في الحياة، وهذا الانضباط في الواقع، الإنسان في غريزته هو الذي يتيح للإنسان استغلال هذه الغريزة إيجابياً، فيتحول دورها من دورٍ سلبيٍ وضار في هذه الحياة، إلى دورٍ إيجابيٍ ومفيدٍ ونافعٍ في هذه الحياة.
في الحلال ما يشبع الغريزة ويغني عن الحرام
كما هي مثلاً الغريزة الجنسية، ورغبة الرجل في المرأة ورغبة المرأة في الرجل، كلاهما يرغب في الآخر، هذه الرغبة لها سبيلها الذي هو الزواج، والذي من خلاله يساعد على بناء الأسرة، ويساعد على دوام النسل البشري، ويوجه هذه الغريزة بشكلٍ إيجابيٍ ونافعٍ في الحياة، ويبعدها ويزيحها عن الجانب السلبي، وعن الأضرار التي تلحق بالناس في حياتهم الاجتماعية وفي حياتهم الصحية. وهكذا بقية الغرائز، غريزة الشجاعة في الإنسان يوجهها فيما فيه دفاعٌ عن الحق، عن العدل، مواجهةٌ للظلم، عملٌ على إقامة الخير في الحياة، دفع المفاسد في الحياة… إلى آخره. وبقية الغرائز.
فالإنسان بالذنوب والمعاصي هو ينحط عن إنسانيته، ويسيء إلى هذا الجانب المهم الذي يميزه عن الحيوانات التي تعمل بالغريزة، وهذه المسألة مهمة جدًّا، ويجب أن نستوعبها جيداً.
وأيضاً لا مبرر للإنسان في التوجه نحو المعاصي والذنوب، الدوافع التي قد يبرر بها الإنسان اندفاعه لفعل المعاصي والذنوب، يمكن أن يتجه الإنسان مع تصويب تلك الدوافع واتجاهها نحو ما فيه الخير له، نحو ما أذن الله فيه، نحو ما لا معصية فيه، وهو يلبي للإنسان، هو كفيلٌ بأن يلبي للإنسان ما يمثِّل حاجةً غريزيةً له، أو حاجةً فطريةً له، أو حاجةً ملحةً لحياته، وبالذات إذا اتجه المجتمع بشكلٍ عام توجهاً إيجابياً، تتوفر الظروف المساعدة على الاستقامة والصلاح على نحوٍ كبير، وتتوفر الظروف الملائمة لصلاح المجتمع، وبالتالي صلاح الفرد كفرد، وتتعالج كثير من السلبيات التي تهيء بيئة ملائمة لظهور المفاسد والمعاصي والمنكرات.
على سبيل المثال: إذا اتجه المجتمع اتجاهاً إيجابياً فيما يتعلق بتخفيض تكاليف الزواج، وتخلص من كثير من العادات المرهقة مالياً، واعتمد مبالغ في مقدور الناس أن يوفروها كتكاليف للزواج، وتَسَاعَدَ في ذلك مع الفقراء، هنا تتأمن بيئة إيجابية، كم سيدفع بها من مفاسد ومنكرات كثيرة، إذا تعاون المجتمع فيما بينه على التصدي للظلم والتصدي للطغيان، كم سيكون قوياً في دفع شر الأشرار، وشر المفسدين، وشر الظالمين، وشر المجرمين، وهكذا أشياء كثيرة التعاون يساعد عليها.
الفرق بين المحسن والمسيء مقتضى حكمة الله.
مما يجدر بنا الإشارة إليه في خطورة الذنوب والمعاصي، وما يترتب عليها في واقع الإنسان أن الله -سبحانه وتعالى- وهو ملك السماوات والأرض- لا يمكن أبداً أن يترك عباده هملاً، من يريد أن يسيء، من يريد أن يظلم، من يريد أن يرتكب الجرائم، من يريد أن يتنصل عن المسؤوليات المهمة التي لا بدَّ منها لإصلاح واقع الحياة، من يريد أن يثبط عن الأعمال الصالحة… وهكذا يترك عباده هملاً، هذا غير ممكن أبداً؛ لأنه الحكيم -جلَّ شأنه- وهو العزيز، وهو -جلَّ شأنه- لا بدَّ أن يفرق بمقتضى حكمته بين المحسن والمسيء، بين المجرم والمؤمن، بين الصالح والفاسد، هو -جلَّ شأنه- القائل في كتابه الكريم: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[ص: الآية 28]، هل يمكن؟! لا بدَّ ما يفرق في هذه الدنيا وفي الآخرة، فيما يترتب على ذلك مما يكتبه -سبحانه وتعالى- في هذه الدنيا وفي الآخرة.
ولذلك الذنوب خطيرة جدًّا، الله -سبحانه وتعالى- يعاقب على الذنوب، الذنوب لها تأثيراتها الكثيرة، والمعاصي لها أخطارها الكبيرة على الإنسان في نفسه، ثم النتيجة، الفعل نفسه كضرر، ثم النتيجة، ما يترتب على ذلك في واقع الحياة، ثم العقوبة الإلهية التي يأتي منها عقوبات في الدنيا متنوعة: أوبئة، أمراض فتاكة، أحداث وكوارث معينة تحصل كعقوبات للناس في هذه الحياة، أو ما يأتي منها في الآخرة- والعياذ بالله- وهو النار، جهنم- والعياذ بالله- وسوء الحساب يوم القيامة، فالمسألة خطيرة جدًّا.
الإنسان الذي يحاول أن يبرر لنفسه استمراريتها في المعاصي، وما هو عليه من الاستهتار واللامسؤولية في تصرفاته وأعماله، هو يورط نفسه؛ لأن العقوبة حتمية، لا يخلص الإنسان من العقوبة إلا التوبة؛ أما الإصرار على الذنب، والاستهتار واللامسؤولية في التصرف والعمل، فهو لن يجديك شيئاً، إذا كنت تمني نفسك بالشفاعة، فالشفاعة ليست للمستهترين، والمجرمين، والفاسدين، والفاسقين، والذين لا يتحلون بالمسؤولية في هذه الحياة، والذين يعملون ما يشاءون ويريدون وفق هوى أنفسهم، بكل ما لذلك من أضرار وسلبيات كبيرة في هذه الحياة، ليست الشفاعة لهذا النوع من الناس: المستهترين، اللامبالين، اللامسؤولين في تصرفاتهم وأعمالهم.
التوبة.. الطريق الوحيد للنجاة من سخط الله
المسألة خطيرة جدًّا، الذي يخرجك من الذنب، من المعاصي، هو التوبة والإنابة إلى الله -سبحانه وتعالى- والتوبة جُعِلت لهذا، من رحمة الله من فضله أن جعل التوبة لتكون هي الطريق التي يخرجنا من الذنوب، والطريقة التي تخرجنا من سخط الله -سبحانه وتعالى- والطريق التي تقينا من عذاب الله -سبحانه وتعالى- على الأعمال السيئة والمعاصي والذنوب، ما كان من الذنوب عبارةً عن جرائم أو معاصٍ ارتكبها الإنسان مما فيه تعدٍ لحدود الله، وما كان منها تقصيراً وتفريطاً في الطاعات، في الأعمال الصالحة، في الأعمال التي أمرنا الله بها، في المسؤوليات التي حمَّلنا الله إياها.
ولهذا أتى في القرآن نداء الرحمة، يتوجه إلينا ينادينا بالتوبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}[التحريم: من الآية 8]، هذه التوبة وعد من خلالها بأن يكفر عنا سيئاتنا، لا يبقى لها أي أثر، حتى يوم القيامة لا تكون في صحف أعمالنا، ولا نسأل عنها، ولا نشهَّر بها يوم القيامة، ثم التوبة النصوح تمحو تأثيرات المعصية نفسياً على الإنسان نفسياً؛ لأنها تغطي كل هذه الآثار، وتمحو كل هذه الآثار السلبية، وتسقط عنك الوزر الكبير للذنب، {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم : 8].
يأتي أيضاً الأمر بالتوبة بشكلٍ جماعي، يقول الله -جلَّ شأنه-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور: من الآية 31]، حالة الرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى- والإنابة إلى الله -سبحانه وتعالى- والتوجه الجاد نحو الالتزام بتوجيهاته -سبحانه وتعالى- هي الحالة التي يجب أن نكون عليها جميعاً كمجتمعٍ مسلم، فإذا لاحظ الإنسان أنه خالف شيئاً من توجيهات الله، رجع، وتاب، واستغفر، وندم، واتجه اتجاهاً جاداً للالتزام العملي والطاعة لله -سبحانه وتعالى- فإذا لاحظ أنه زل هنا أو هناك هكذا يبادر بالرجوع، حالة الرجوع يجب أن تكون حالة مستمرة في واقعنا كمسلمين وكمجتمعٍ مؤمن، وبها الفلاح؛ أما إذا كان الإنسان مستهتراً تتراكم الذنوب، تتراكم المعاصي، وتكبر تأثيراتها على نفسه، وتعظم تأثيراتها السلبية في واقع الحياة من حوله، فيكون لهذا الأثر السيء على الإنسان في نفسه، يتخرب، يَفسُد، يَفسُد الإنسان وتَفسُد نفسيته، ثم يعظم انحرافه ويسوء في هذه الحياة، وتكثر أعماله السيئة، ويتجه اتجاهاً سلبياً، قد يصل إلى درجة الخذلان التام والعياذ بالله -سبحانه وتعالى-.
الله -سبحانه وتعالى- يقدِّم أيضاً وعداً للإنسان بأنه إذا رجع إلى الله، وتاب، وأناب إليه بصدق؛ أنه سيغفر له، حتى لا يكون الإنسان محبطاً، أو يائساً، أو قانطاً من رحمة الله، يقول الله -جلَّ شأنه- في القرآن الكريم: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء: الآية110]، هذا وعد من الله -سبحانه وتعالى- وعد بالمغفرة، إنك عندما تعمل سوءاً، أو تظلم نفسك، ثم تندم وتعود بالتوبة النصوح والصادقة إلى الله -سبحانه وتعالى- وتطلب منه المغفرة، وتسعى لنيل مغفرته، أنه سيغفر لك؛ ولذلك لا مبرر للإنسان في استمراره على الذنب، في إصراره على المعصية، لا مبرر له، وإذا يئس فاليأس بنفسه ذنب، هو ذنبٌ آخر، وإذا قنط من رحمة الله فهذه معصية أخرى، عظيم فضل الله -سبحانه وتعالى- وسعة رحمته وكرمه أنَّ اليأس من رحمته ذنب بحد ذاته.
وجوب المبادرة وخطورة الإصرار
ولذلك لا مبرر للإنسان في الإصرار على الذنب، بل إنَّ الحالة الصحيحة للإنسان المؤمن، للإنسان الذي يتقي الله -سبحانه وتعالى- أنه إن زل، أو قصَّر، أو فرَّط فيما هو طاعة لله، فيما هي مسؤوليةٌ عليه، وانتبه؛ يبادر فوراً إلى التوبة، يبادر، لا يتأخر، لا يسوِّف، ولذلك يقول الله -سبحانه وتعالى- عن عباده المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: الآية 135]، نلاحظ في هذه الآية المباركة كيف أنهم أولاً: يذكرون الله؛ لأنهم لا يستمرون في حالة الغفلة عن الله -سبحانه وتعالى- قد يسهو، قد يغفل لبعض الوقت، ولكنه ينتبه، يتذكر الله -سبحانه وتعالى- لا يستمر في حالة الغفلة عن الله -سبحانه وتعالى- أوقاتاً طويلة، فيتمادى في عصيانه، فيصر على ذنبه. |لا| هو ينتبه، ويذكر الله، عند ذكره لله يتحرك فيه الخوف من الله -سبحانه وتعالى- والحياء من الله -سبحانه وتعالى- فيبادر فوراً: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}، يستغفر الله، ويتوب إلى الله توبةً نصوحاً جادةً صادقة، ويقلع عن المعاصي، يقلع عنها، يقلع عن تلك المعصية، يقلع عن ذلك الذنب.
{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، الإصرار على الذنوب من أخطر الأمور على الإنسان، الإصرار على الذنب، سواءً كان هذا الذنب معصية بشكل تجاوز لحدٍ من حدود الله، ومخالفة لنهيٍ من نواهي الله -سبحانه وتعالى- أو كان هذا الذنب تفريطاً في طاعة مما أمرنا الله وألزمنا به من مسؤولياتنا التي حملنا الله إياها، كلاهما يعتبر ذنباً، ويعتبر معصيةً؛ لأن البعض لا ينتبه لهذا الجانب الآخر، الذي هو التفريط في الطاعة اللازمة.
الإنسان إذا أصر، هذا الإصرار خطيرٌ جدًّا على الإنسان، تفسد نفسيته، يؤثِّر الشيطان فيه أكثر، يتمكن من التأثير عليه، في الوقت نفسه يعظم سخط الله عليك، يكبر غضبه عليك، وقد تصل -والعياذ بالله- إلى حد الخذلان، أن يخذلك الله، فلا يمنحك شيئاً من رعايته، ومن رحمته، ولا يتوب عليك فيوفقك للتوبة، وهذه حالة خطيرة جدًّا على الإنسان، الإصرار على الذنوب يجعلك تتحمل الوزر أكثر، وتذنب أكثر، ويبعدك عن التوفيق أكثر، ثم هو أيضاً يساعد إلى حدٍ كبير الشيطان في السيطرة عليك، يُذهب منك مَنَعَة التقوى، يضعف في نفسك دوافع الخير، تكبر وتعظم في نفسك ميول الشر، ميول الفساد، يقسو قلبك، وقسوة القلوب من أخطر الأشياء على الإنسان، أن يقسو قلبه، إذا قسى القلب لا تنتفع بالذكرى، لا ينفع فيك حتى القرآن الكريم، حتى الأحداث والمتغيرات التي فيها العبرة الكبيرة والكافية لا تؤثر فيك، فتتجه بجرأة إلى المعاصي، وتتجه بشكلٍ أكبر إلى التفريط والإصرار على التخاذل عن مسؤولياتك، وعن طاعة الله -سبحانه وتعالى- علاقتك بالله تضعف، وعلاقتك بالشيطان في تأثرك به تَكبُر، علاقة سلبية طبعاً، وهذه حالة خطيرة جدًّا.
{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) }[آل عمران: 135]، أن الله يغفر لهم؛ لأنهم يعودون إليه، يندمون، يستحون منه، يتجهون بصدق للإقلاع عن المعصية، للفرار من الذنب إلى الله -سبحانه وتعالى- {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}[آل عمران: من الآية136]، هكذا الجنة.
من مواصفات عباد الله المتقين
بل إنَّ الله -سبحانه وتعالى- يصف عباده المؤمنين المتقين أنهم في حالة الرجوع والتوبة والإنابة هي بالنسبة لهم حالةٌ مستمرة، وأنهم يلازمونها ويستمرون عليها؛ لأن الإنسان مهما بلغ صلاحه، مهما كانت استقامته، مهما كانت طاعته، قد يسهو، قد يخطئ، قد يقصر، لو لم يكن لنا إلَّا معاصي التقصير، دعك من كبائر الذنوب، والجرائم الشنيعة والفظيعة، التقصير في الطاعات، التقصير في المسؤوليات، كم نقصِّر في مسؤولياتنا، الأخطاء في المعاملة: في معاملتنا داخل الأسرة، في معاملتنا مع الناس من حولنا، كم يحصل من أخطاء، كم يحصل من ذنوب، كم يحصل من معاصٍ في هذين الجانبين: جانب التقصير في الطاعات اللازمة والمسؤوليات، وجانب الأخطاء والمعاصي والذنوب في المعاملة: المعاملة داخل الأسرة، المعاملة خارج الأسرة، المعاملة مع الناس، في كلامك، في أسلوبك في التعامل، كم يحصل من أخطاء، إذا لم يكن الإنسان ملازماً للتوبة، راجعاً بشكلٍ مستمرٍ إلى الله، يطلب من الله المغفرة، يسأل من الله المغفرة بالدعاء، بالاستغفار، ويسعى للاهتمام بالأعمال التي بها أيضاً ننال المغفرة؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- وجهنا إلى أن نتوب إليه بالندم على الذنب، بالعزم على الإقلاع عنه، بالاستغفار، وأيضاً وجهنا أيضاً -سبحانه وتعالى- إلى أعمال، جعل من جزائه على تلك الأعمال الصالحة المغفرة وتكفير السيئات، فاهتمامنا المستمر بالاستغفار (بطلب المغفرة) وبشكلٍ مستمر، واهتمامنا أيضاً بالأعمال الصالحة، الأعمال التي من جزاء الله فيها ومن المكافآت التي يكافئنا الله عليها: المغفرة، أن يمن علينا بالمغفرة، وأن يمن علينا بتكفير السيئات، هذا مهمٌ جدًّا.
الله -جلَّ شأنه- يقول عن عباده المؤمنين المتقين في ملازمتهم للاستغفار والتوبة: {الصَّابِرِينَ}، يذكر مواصفات من؟ المتقين، هو يذكر هنا مواصفات المتقين: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران: الآية 17]، يذكرهم هنا بمواصفات إيمانية راقية ومهمة، وهي نماذج من مواصفاتهم الإيمانية، من مواصفاتهم التي تتحقق بها لهم التقوى: {الصَّابِرِينَ}، الصبر الذي يتصفون به، والذي أصبح صفةً لازمةً لهم من كثرة صبرهم، فهم يصبرون في ضبط النفس عن المعصية، حتى لو كانت تهوى شيئاً ما؛ يضبطون أنفسهم عنه، وهم يصبرون في دفع الناس للعمل بالطاعة اللازمة والأعمال التي فيها رضى الله -سبحانه وتعالى- مهما كانت فيها من مشقة على النفس أو صعوبات، مهما كان في النفس من ملل أو ضجر، مهما كان في النفس من عزوف، مهما كان هناك من تعب نفسي أو جسدي، هم يتحملون؛ لأنهم يعون قيمة هذه الأعمال وما سيترتب عليها من النتائج، هم يصبرون أيضاً في تحمل المسؤوليات بما يترتب عليها من تضحيات، أو يترتب عليها من مخاطر، أو يترتب عليها من أوجاع، هم يتحملون؛ من أجل وعيهم وإيمانهم بقيمة هذه الأعمال في القربة إلى الله -سبحانه وتعالى- ونيل رضاه.
{وَالصَّادِقِينَ}، مصداقية في انتمائهم الإيماني، مصداقية في حديثهم، في أعمالهم، في التزاماتهم، الصدق عنوان أساس بالنسبة لهم لالتزامهم به.
{وَالْقَانِتِينَ}، القنوت: الخضوع لله -سبحانه وتعالى- ليسوا متكبرين، وليسوا مزاجيين، يذعنون لله في كل الأحوال، حتى فيما لا تهوى النفس، حتى عند الغضب، حتى في الحالات التي قد لا يلتزم فيها البعض، نفوسهم خاضعة لله -سبحانه وتعالى- وبالتالي منقادة لتوجيهاته -جلَّ شأنه.
{وَالْمُنْفِقِينَ}، أهل إنفاق، أهل عطاء، ليسوا بخلاء، ينفقون في سبيل الله، ينفقون في أعمال البر، ينفقون لمساعدة الفقراء والمساكين… ينفقون، وحالة هم مستمرون عليها، حتى أصبحت صفةً من صفاتهم، وعنواناً أساسياً من عناوين أعمالهم التي يستمرون عليها، ليسوا موسميين في إنفاقهم (في السنة حسنة). |لا| كلما رزقهم الله ينفقون مما رزقهم الله؛ حتى أصبحت صفةً أساسيةً من صفاتهم.
الاستغفار.. ختام مواصفاتهم العظيمة
مع كل هذه المواصفات العظيمة، والتي تتحقق بها التقوى لله، ماذا يقول عنهم، وماذا يختم هذه المواصفات لهم؟ يقول -جلَّ شأنه-: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}، لاحظوا يُخيَّل للبعض أن الاستغفار هو لمن؟ للمجرمين، للمفسدين، للمذنبين الذنوب والآثام الكبيرة، هؤلاء هم بحاجة إلى الاستغفار، وعليهم أن يستغفروا وأن يتوبوا وأن يقلعوا عن ذنوبهم ومعاصيهم، لكن الله يذكر لنا عن المتقين مهما بلغ إيمانهم، ومهما بلغت تقواهم، ومهما كانت المواصفات الإيمانية في واقعهم قائمة وحاضرة وموجودة، فهم يستشعرون تقصيرهم، هم لا يزالون يشعرون بأنهم مقصرون، لا يعيشون حالة الغرور، ولا حالة العجب بالنفس.
البعض من الناس كم هو معجبٌ بنفسه ومغرور؛ لأنه لحد الآن مثلاً لم يرتكب ثلاثاً أو أربعاً من المعاصي الكبيرة التي قد اشتهرت في كونها من الكبائر، مثلاً: لم يزنِ، لم يرتكب الفاحشة، لم يقتل النفس المحرمة، لم يشرب الخمر، من النعمة والتوفيق أن الإنسان لا يفعل مثل هذه الجرائم، نعمة وتوفيق إلهي كبير، ولكنه في المقابل كم عليه من معاصٍ أخرى، تعال إلى جانب المسؤوليات كم هو مفرط في كثيرٍ من المسؤوليات: مسؤولية الجهاد في سبيل الله، أن يكون ساعياً في هذه الحياة لإقامة العدل، لمواجهة الظلم، للتصدي للفساد، أن يساهم في ذلك بنفسه وماله ولسانه، مسؤولية مهمة وكبيرة، مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مفهومها الإسلامي الصحيح، وليس في مفهومها التكفيري الداعشي، كم هو مقصر، العمل الخيِّر الذي فيه الإنفاق، وفعل الخير، والإحسان إلى الناس، كم هو مقصر، الأعمال الاجتماعية الصالحة، التي فيها صلاح أمر المجتمع، كم هو مقصر، جانب التقصير عنده كبير جدًّا، وهو في الوقت نفسه لا يستشعر أنه مقصرٌ، يعتبر نفسه أنه صار من أولياء الله، وأنَّ أبواب الجنة مفتحةً أمامه، إنما فقط يأتي ليدخل فوراً.
كلماعظم الإيمان استشعر التقصير
إنَّ الله -سبحانه وتعالى- يؤكِّد لنا في القرآن الكريم أنَّ من أهم صفات المؤمنين المتقين الصالحين من عباده: أنهم يستشعرون التقصير، مهما بلغت استقامتهم والتزامهم يدركون أنهم مقصرون، وهذا هو أمر واقعي فعلاً، الإنسان مهما بلغ اهتمامه يبقى عنده تقصير، يبقى عنده هفوات، يبقى عنده زلات، يزل، ظروف حياة الناس، ظروف حياة الإنسان، ما يواجهه في هذا الواقع من مشاكل، من متاعب، من شواغل، من تأثيرات نفسية، يأتي مع ذلك الزلل، التقصير هنا، الزلل هنا، الخطأ في معاملة معينة، التقصير في عمل معين، عدم الإتيان بهذا العمل كما ينبغي، هذه حالة مؤكَّدة في واقع الإنسان؛ ولذلك الإنسان كلما عظم إيمانه، كلما استشعر التقصير، هذه حقيقة لازمة: كلما استشعر التقصير، وكلما كان بعيداً عن الغرور، وعن العجب.
اليوم البعض من الناس قد يكون يعمل بعض الأعمال، وحتى يتحرك في سبيل الله، ويعمل أعمالاً مهمةً في سبيل الله، ثم إذا به- لأنه واجه إشكالات معينة، أو صعوبات معينة، أو عوائق معينة- يقعد في بيته، ويُفرِّط ويُقصِّر في مسؤوليته، ويعتبر نفسه في تلك الحال أنه في موقع المطيع الذي قد أتمَّ الطاعة، وقد لا يعتبر نفسه مُقصِّراً بأي تقصير، وحضرته أصبح يرى نفسه في وضعية لم يكن الأنبياء فيها، الأنبياء- وهم أنبياء الله- كانوا يستشعرون التقصير، كان من أهمِّ ما يدعون الله به، من أهمِّ ما يضرعون إلى الله فيه، من أهمِّ ما يطلبونه من الله، في مقدِّمة طلباتهم من الله -سبحانه وتعالى- أنهم يطلبون المغفرة، من هو الذي يمكن أن يكون قد وصل منَّا- كناس مسلمين- إلى مستوى نبي من أنبياء الله؟ هل أحد يمكن أن يدَّعي لنفسه ذلك؟ لو ادَّعى لنفسه ذلك فهو يفتري، وهو فاسد وجاهل.
الأنبياء في عظيم منزلتهم عند الله، في ما هم فيه من الاستقامة التامة في طاعة الله -سبحانه وتعالى- ما هم عليه في علاقتهم الإيمانية الراقية جدًّا بالله -سبحانه وتعالى- يعتبرون أنفسهم مقصِّرين، ويطلبون من الله المغفرة، ويتجهون عملياً نحو سلم الكمال الإيماني، وسلم الكمال في الطاعة، والعمل، والسعي لنيل رضوان الله، والارتقاء في درجات الإيمان والتقوى، هذا حالهم، حتى كبار الأنبياء، عظماء الأنبياء، أولو العزم من الرسل، القرآن الكريم يقدِّم لنا أدعية نبي الله نوح وهو يطلب المغفرة: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}[نوح: من الآية 28]، بعد تسعمائة وخمسين عاماً من تبليغ الرسالة، من العمل على إقامة دين الله، من الالتزام الإيماني العظيم، من الصبر في طاعة الله، من الصبر في سبيل الله، من العمل الدؤوب وهو يواجه التحديات، والصعوبات، والتكذيب، والعناء الشديد، وهو يعيش حالة الغربة في مجتمعه، عملاً عظيماً، ارتقاءً إيمانياً ومنزلةً عاليةً في القرب من الله -سبحانه وتعالى- في ختامها يطلب من الله المغفرة، لا يزال يعتبر نفسه مقصِّراً، ويطلب من الله أن يغفر له.
نبي الله إبراهيم -عليه السلام-، وهو الذي بلغ في منزلته الإيمانية، وفي منزلته في الفضل والقرب من الله -سبحانه وتعالى-، أنَّ قال الله -جلَّ شأنه- عنه: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء: من الآية 125]، أكرم بهذا الشرف! شرفٌ عظيمٌ جدًّا، شرفٌ كبير. إبراهيم يقول: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء: الآية 82]، أطمع أنَّ الله يغفر لي خطيئتي يوم الدين، يوم القيامة، يوم الحساب، يوم الجزاء، {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}[إبراهيم: من الآية 41]، {رَبِّ اغْفِرْ لِي}، كم في القرآن من أدعيته وهو يطلب المغفرة، حتى وهو يبني الكعبة مع ابنه إسماعيل -عليهما السلام- يتقدم إلى الله ويرجو من الله أن يقبل منه عمله، لا يعيش حالة غرور ويعتبر مسألة القبول للعمل أصبحت أمراً مفروغاً منه، لا يحتاج حتى أن يطلبه من الله، يتجهان إلى الله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة: من الآية 127].
العجب والغرور من أهم عوامل الإصرار
حالة الغرور هي مما قد يسبب للإنسان أن يصر على تقصير، وأن يصر على ذنوب معينة، وحالة الغرور أيضاً قد تبعد الإنسان عن التوجه بخشوع بصدق إلى الله -سبحانه وتعالى- من واقع الاستشعار للذنب والتقصير بطلب المغفرة، المغرور حتى وهو يستغفر يستغفر بلسانه ولا يستغفر بقلبه، المغرور المعجب بنفسه يرى نفسه أنه ليس في موقع أن يطلب من الله المغفرة، ليس في موقع التقصير، وهذه حالة رهيبة جدًّا، هي الحالة التي ورَّطت إبليس، إبليس رأى نفسه في هذا الموقع، تعاظم أعماله الصالحة؛ فامتلأ غروراً وكبراً، وهذا ورّطه، وراء الغرور، وبعد الغرور يدخل الإنسان إلى مرتبة أسوأ هي الكبر.
ولذلك نجد أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يأمر حتى نبيه ورسوله -صلوات الله عليه وعلى آله-، وهو خير البشرية بكلها، خير ولد آدم، أعظمهم إيماناً، أعلاهم منزلةً وقربةً إلى الله -سبحانه وتعالى-، رسول الله محمد -صلوات الله عليه وعلى آله- يقول الله له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد: من الآية 19]، الله يأمر نبيه محمداً أن يستغفر لذنبه، ماذا كان ذنبه؟! هو -صلوات الله عليه وعلى آله- الطاهر، العظيم، المستقيم في طاعة الله -سبحانه وتعالى- الله يقول له أيضاً: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، يعني: واستغفر للمؤمنين والمؤمنات، ما قال مثلاً فقط: [وللمجرمين والمجرمات].
الإنسان المؤمن يستشعر التقصير، التقصير في أدائه لمسؤولياته في أعماله، الهفوات والزلل الذي قد يحصل منه في تصرفاته، كان رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- فيما روي عنه كلما قام من مجلس كان يجلس فيه مع الناس من حوله، ويتحدث إليهم، وكل حديثه إنما هو تذكير، إنما هو هداية، إنما هو إرشادٌ إلى ما فيه الخير، يستغفر الله، كلما قام من مقامه: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، يستغفر الله سبعين مرةً يختم بها مجالسه، يكرر الاستغفار، يطلب من الله المغفرة، فطلب المغفرة والاستغفار والتوبة إلى الله يجب أن تكون حالة يستمر عليها الإنسان ويلازمها في ليله ونهاره، وفي أحواله المختلفة، وعندما يدرك أنه ارتكب تقصيراً معيناً، أو زللاً معيناً، أو هفوةً معينة.
إضافةً إلى التخلص من المظالم، المظالم تجاه الناس وبحق الناس، يسعى الإنسان أن يتخلص منها، ولا يصر على مظلمة.
من أعظم موجبات الغفران
التركيز على الأعمال التي ننال بها المغفرة، الله -سبحانه وتعالى- قال في كتابه الكريم عن الجهاد في سبيل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}[الصف: 10-12]، الإنسان إذا أقلع عن المعاصي، واتجه في الطاعة والاستقامة، وتحرك في سبيل الله -سبحانه وتعالى- بلسانه ونفسه وماله، بإخلاص وصدق وِفق توجيهات الله وتعليماته في الموقف الحق؛ فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- يغفر له ذنوبه في الماضي، بعض الذنوب تكون قد تركت آثاراً سلبية على الإنسان في نفسه، في مشاعره، في واقعه، بحاجة إلى عمل وازن، عمل عظيم.
الله -سبحانه وتعالى- قال عن الصدقات أيضاً: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ}[البقرة: من الآية 271]، الصدقة الخفية التي تراعي فيها أنت كرامة الفقير، وتوصلها إليه خفية، وليس أمام الناس، وليس أمام كاميرا الفيديو، وأمام التليفزيون، ولا أمام الآخرين وهم ينظرون إليه وهو يشعر بالخجل وهو يأخذ منك الصدقة. |لا| خفية تراعي فيها كرامته واعتباره، هذه من الأعمال العظيمة، والتي بها أيضاً يكفِّر الله السيئات.
أيضاً من المهم جدًّا اجتناب الكبائر؛ لتكفير بقية السيئات الله، -جلَّ شأنه- قال في القرآن الكريم: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء: الآية31]، اجتناب الكبائر التي عليها وعيد، الكبائر ما كان منها تعدياً لحدود الله، وما كان منها أيضاً تقصيراً في المسؤوليات المهمة وتفريطاً فيها، يساعد على تكفير السيئات، مع الالتجاء إلى الله بالتوفيق، والإنسان يطلب من الله ألا يكله إلى نفسه طرفة عينٍ أبدا، نحن بحاجة دائمة إلى توفيق الله، إلى ألطافه، إلى هدايته، إلى معونته؛ لكي نستقيم، وأن نحذر من خطوات الشيطان، البعض يبدأ خطوة معينة من المعاصي تجره إلى خطوةٍ أكبر، ثم إلى خطوة أسوأ… وهكذا، يبدأ في مواقع التواصل الاجتماعي بالمغازلة، المغازلة تجره إلى ما هو أسوأ… وهكذا، حتى يصل إلى ارتكاب الجرائم، يبدأ في تنصله عن المسؤولية وتفريطه في مسؤوليته بتفريط معين، ثم تفريط أكبر… وهكذا، حتى يصل إلى القعود والتخاذل الكلي، وأشياء كثيرة تحصل في واقع الإنسان.
خطورة التسويف بالتوبة
يحذر الإنسان في التوبة من التسويف، التسويف من أخطر الأشياء على الإنسان، الله فتح لنا برحمته باب التوبة والرجوع إليه، والشيطان يدخل علينا من ناحية التسويف، أن يسوف الإنسان التوبة: [سوف أتوب فيما بعد، سأستمر الآن، سوف أتوب في مرحلة أخرى، في سنة كذا، أو شهر كذا، أو يوم كذا]. الله -سبحانه وتعالى- يحذِّرنا من الإصرار ومن التسويف، هو -جلَّ شأنه- القائل: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}[النساء: من الآية 18]، التسويف قد يفقدك التوفيق، قد لا تتوفق للتوبة، وقد تقع فيما هو أفظع، وأعظم جرماً، وأكبر خطأً، وأنت تُسوِّف، التسويف خطيرٌ جدًّا على الإنسان، وقد يأتيك الموت وأنت لا تدري، عندما يأتي الموت وتريد أن تتوب، تدرك أن الموت أتى، لا يقبل الله منك توبتك، {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}، ليست مقبولةً منه أبداً.
من المهم للإنسان أن يعزز في نفسه الخشية من الله، الخشية من الله تساعدك على الاستقامة، والحذر من المعصية، وأن ينمِّي فيه الحياء من الله -سبحانه وتعالى- تنمِّي في قلبك الحياء من الله، والإكثار من ذكر الله -سبحانه وتعالى-.
من المهم للمجتمع أن يكون مجتمعاً متعاوناً على البر والتقوى، ناهياً عن المنكر، متواصياً بالحق، متواصياً بالصبر، متناصحاً، هذا الجو نفسه يساعد على الاستقامة والالتزام، وعلى الخلاص من الذنوب والمعاصي والكبائر.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا وإيَّاكم من عباده التائبين، الذين يوفَّقون للتوبة النصوح، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛