المعاصي وآثارها المدمرة
ووجوب التوبة قبل الندم
أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
الله -سبحانه وتعالى- هو أرحم الراحمين، وبقدر ما نرى في الآيات المباركة التي تحدثنا على ضوئها بالأمس من عذاب الله، وبأسه، وانتقامه، والخطر الرهيب جدًّا الذي يهدد الإنسان، وقد يقع فيه الإنسان- والعياذ بالله- إن لم يرجع إلى الله -سبحانه وتعالى- فإن الله -جلَّ شأنه- قد فتح لنا جميعاً، لعباده جميعاً باب الرحمة، وباب المغفرة، وباب الخير الذي به ينجون من ذلك العذاب.
والله -سبحانه وتعالى- أرشدنا إلى التقوى، أن نحرص على التقوى، أن نسعى للتقوى، والتقوى من خلالها تتحقق لنا الوقاية من عذاب الله في الدنيا والآخرة، الوقاية من النتائج السيئة للأعمال السيئة؛ لأن التقوى تساعدنا على الانضباط العملي، وجعل مما يلحق بالتقوى وهو جزءٌ أساسيٌ من التقوى هو التوبة إلى الله -سبحانه وتعالى- والرجوع إليه عند الزلل، وعند الخطأ، وعند ارتكاب المعصية.
الله -سبحانه وتعالى- رحيمٌ بنا، يدعونا إلى المغفرة، يدعونا إلى الجنة، يدعونا إلى ما فيه الخير لنا في الدنيا والآخرة، وهو -جلَّ شأنه- يدعونا إلى ما فيه إنقاذنا من الذنوب، إنقاذنا من الأعمال السيئة التي لها خطورة كبيرة علينا نحن؛ أمَّا الله -سبحانه وتعالى- فليس عليه منا ومن أعمالنا السيئة أي خطورة، ولا أي ضرر أبداً، لا تضره معاصينا ولا ذنوبنا، ونجد دعوته التي تعبِّر عن رحمته وفضله ورأفته بعباده في القرآن الكريم، وهي تتكرر كثيراً بعبارات مؤثرة جدًّا، عبارات تعبِّر بالفعل عن الرحمة، عن الرأفة، ونجد أيضاً من خلال أنبيائه -عليهم السلام- كيف كانوا حريصين جدًّا على إنقاذنا، على خلاصنا، على دفعنا إلى ما فيه الخير لنا، على استنقاذنا من ذلك الهلاك، من ذلك العذاب، من عذاب الله في الدنيا ومن عذابه في الآخرة، وبعبارات كذلك فيها ما يعبِّر عن رأفتهم، عن رحمتهم، عن حرصهم الشديد على إنقاذنا وخلاصنا، الواحد من الأنبياء يأتي إلى قومه ويقول لهم: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأعراف: من الآية 59]، {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}[هود: من الآية 3]، يسعى إلى خلاصهم، يتألم جدًّا عليهم من أن يهلكوا.
رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- يقول الله جل شأنه عنه مخاطباً له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف: الآية6]، هو يدرك الخطر الكبير عليهم نتيجة عنادهم، إعراضهم، رفضهم للإيمان بهذا الهدى، ويدرك أين مصيرهم، ذلك المصير الرهيب جدًّا، وما يترتب على ذلك في الدنيا، وما يترتب عليه في الآخرة، فهو يتألم جدًّا، هو حريصٌ على نجاتهم، حريصٌ على إنقاذهم، إلى هذه الدرجة من الألم النفسي عليهم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}: تكاد أن تهلك نفسك غماً وخزناً وضيقاً من أجلهم، أنهم لم يهتدوا بهذا الهدى الذي فيه نجاتهم، وفيه فلاحهم، وفيه خلاصهم، وفيه إنقاذهم. وهكذا يأتي في القرآن الكريم التحذير المتكرر، وأيضاً في المقابل الدعوة التي تعبِّر عن رحمة الله -سبحانه وتعالى- وبعبارات رقيقة، وبعبارات كلها رحمة، وكلها رأفة من الله -سبحانه وتعالى-.
المعاصي وآثارها الخطيرة على الفرد والمجتمع
نأتي لنتحدث كتمهيد في موضوع التوبة عن خطورة الذنوب والمعاصي، وهي المسألة التي يجب أن نرسِّخها كثيراً كثيراً، لا خطر علينا أكبر من الذنوب والمعاصي، الذنوب والمعاصي هي التي تصل بالإنسان إلى جهنم، وهي التي تسبب له العذاب من الله -سبحانه وتعالى- في الدنيا وفي الآخرة، وهي التي تحرمه من الكثير الكثير من ألطاف الله، ومن رعايته، ومن فضله، من رعايته الواسعة، تشكِّل خطورةً كبيرةً على الإنسان كفرد، ثم على المجتمع كمجتمع، تشكِّل خطورةً بالغةً على المجتمع، والمخاطر الكبيرة للذنوب وللمعاصي وللانحراف عن توجيهات الله -سبحانه وتعالى- وعن تعليماته، وعن نهجه وهديه، المخاطر الكبيرة والآثار السلبية هائلة جدًّا، هي سببٌ لشقاء الإنسان في هذه الحياة، أن يشقى بكل ما قد يأتي لهذا الشقاء، وكلما يعبِّر عنه هذا الشقاء، مثلاً: البعض قد يكون شقاؤهم ليس على مستوى الجانب المادي، قد يتوفر الجانب المادي لهم، ولكن على المستوى النفسي، وعلى المستوى الاجتماعي، وعلى المستوى الأمني، تتفاوت المسألة في واقع الأفراد كأفراد من شخصٍ إلى آخر، وفي واقع المجتمعات كمجتمعات من مجتمعٍ إلى آخر، في نتائج هذه الذنوب والمعاصي، وفي طبيعة العقوبات وتنوع العقوبات التي يعاقب بها الناس.
حتى على مستوى الذنوب، ذنوب لها عقوبات معينة في الدنيا ثم في الآخرة، وذنوب لها عقوبات مختلفة في الدنيا وفي الآخرة، وذنوب لها آثار سلبية معينة في واقع الناس، مثلاً: على المستوى الاجتماعي، والبعض منها على المستوى الصحي، والبعض منها على المستوى الأمني… وهكذا؛ لأن توجيهات الله -سبحانه وتعالى- وتعليماته هي تعليمات تصلح بها حياتنا، هي التعليمات التي بها صلاح حياة هذا الإنسان على كل المستويات وفي كل المجالات، ثم بها سعادته في الآخرة، وفوزه العظيم بما وعد الله به من رضوانه وجنته، وبها نجاته من عذاب الله في الآخرة، فمخالفة تعليمات الله، ومخالفة توجيهات الله -سبحانه وتعالى- يترتب عليها تأثيرات سيئة في واقع الإنسان، بدءاً من واقعه النفسي، آثار على المستوى النفسي متنوعة ومتعددة: قسوةٌ للقلوب، هذا من الآثار السيئة جدًّا، أن يفقد الإنسان مشاعره الإنسانية الطيبة، ولين قلبه، وقسوة القلوب حالة خطيرة جدًّا تخرج الإنسان عن واقعه الإنساني، تذهب به إلى التوحش، لها آثار سلبية جدًّا على الإنسان في سلوكياته، وفي أعماله، وفي علاقاته، وفي تصرفاته… وفي أشياء كثيرة.
على مستوى المشاعر الإيجابية يبدأ الإنسان يفقد مشاعره الإيجابية، تنمو في نفسه المشاعر السلبية والآفات الخطيرة جدًّا من مثل: الحقد، الحسد، الطمع، الجشع، الميول السلبية، الدوافع نحو الأعمال الشريرة، والجرائم، تتلوث نفسية الإنسان، ويفقد المشاعر الطيبة، يفقد زكاء نفسه، وهذه حالة خطيرة جدًّا، وخسارة كبيرة جدًّا على الإنسان كإنسان؛ لأن
الله منح هذا الإنسان ما يساعده على زكاء نفسه، وأن يحمل بذلك المشاعر الطيبة، وأن تنمو فيه كل معاني الخير، كل الأشياء الإيجابية، وبالتالي يكون لهذا أثر إيجابي في نفسه، في شعوره، في وجدانه، في اطمئنانه النفسي، ارتياحه النفسي، هذه مسألة من أهم المسائل.
ثم المعاصي والذنوب منها ما يترك آثاراً سلبية فورية على الواقع الاجتماعي، على الناس في الواقع الأسري، يهدم بنيان الأسرة، يفكك الأسرة، أو على مستوى العلاقات ما بين أبناء المجتمع تتحول إلى علاقات سلبية، بدلاً من أن تكون قائمة على الثقة المتبادلة، على حسن التعامل، على التعامل بمصداقية، على التعامل بدوافع الخير وبالقيم وبالأخلاق، تتحول إلى معاملات يسودها أشياء سيئة جدًّا: الخداع، والمكر، والسوء، ودوافع الشر، والإساءات، والمشاحنات، والبغضاء، والكراهية، والأحقاد، والحسد، والطمع… وأشياء كثيرة جدًّا، فتسوء حياة الناس، ويتباينون فيما بينهم، ويكون لهذا آثار سلبية تؤدى إلى الشقاء النفسي، تضيق حياتهم، لا ينعمون بالأخوة، لا ينعمون بالمحبة، لا ينعمون بالمودة، لا ينعمون بالصفاء النفسي فيما بينهم، يفقدون الاطمئنان تجاه بعضهم البعض، يكون لذلك آثار سيئة جدًّا فيما بينهم في حياتهم، تتحول حياتهم إلى حياة سيئة جدًّا، وقاسية جدًّا، وموحشة جدًّا.
وهكذا على المستوى الأمني، الكثير من الجرائم تشكل خطورة كبيرة على الناس في أمنهم: جرائم القتل، جرائم السرقة، جرائم النهب، جرائم الاغتصاب، جرائم السطو… جرائم كثيرة جدًّا هي كلها في قائمة الذنوب والمعاصي، تهدد الأمن والاستقرار للناس على ممتلكاتهم، على حياتهم، على أعراضهم.
وهكذا تتنوع المعاصي، وتتنوع أيضاً تأثيراتها السلبية على الناس في حياتهم، فتكون النتيجة هي الشقاء.
الآثار الطيبة للعودة إلى الله
بينما الرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى- الرجوع إلى تعليماته، الرجوع إلى توجيهاته، الإنابة إليه، فيه كل الخير للإنسان، وكل الآثار الطيبة، وهو يضمن للناس الحياة الطيبة التي وعد الله بها، فيكون لذلك الأثر الإيجابي على المستوى النفسي، على مستوى المشاعر، على مستوى الوجدان، وعلى المستوى الاجتماعي في العلاقات ما بين المجتمع الذي تسوده تلك القيم، تلك الأخلاق، تلك التعليمات، تلك التوجيهات، وعلى المستوى الأمني تتقلص إلى حدٍ كبير نسبة الجرائم بكل آثارها السلبية، على مستوى الاستقرار السياسي… على كل المستويات، ولذلك الخير هو للناس في ذلك.
أيضاً يدفع الله عن الناس الكثير من العقوبات التي تأتي في الدنيا، الكثير من المصائب، الكثير من الأشياء التي تمثِّل خطورةً عليهم في حياتهم، كثيراً من الأوبئة، كثيراً من العقوبات المتنوعة؛ لأن العقوبات والتأثيرات تتنوع، منها ما يأتي على الناس في معيشتهم، في صحتهم، كثيراً من الأوبئة، كثيراً من المصائب، كثيراً من الآفات، انتزاع البركات، الجدب الشديد… أشياء كثيرة، هذه كلها يدفعها الله عنهم إلى حدٍ كبير، ويحظون برعاية واسعة من الله -سبحانه وتعالى- وآثار إيجابية في واقع الحياة.
فلذلك من رحمة الله -سبحانه وتعالى- بنا أنه قدَّم لنا ما يساعدنا على التخلص من الذنوب، وفتح لنا باب التوبة والإنابة والرجوع إليه، والرجوع إلى توجيهاته وتعليماته للعمل بها، فيمنحنا المغفرة على ما كان منَّا من ذنوب وأخطاء ومعاصي، وفي نفس الوقت يمنحنا -جلَّ شأنه- الرعاية التي وعد بها في كتابه الكريم.
التحذير مما حل بالأمم ووجوب التوبة قبل الندم
نبدأ ببعض الآيات المباركة التي تحذر من الذنوب والمعاصي، يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ}، مجتمعات كثيرة عتت وتعنتت وتجاوزت حدود الله وتعليماته، ولم تبالِ بها، ورمت بها عرض الحائط، وتجاهلتها، وتنكرت لها، ولم تعطها أي قيمة، واتجهت بناءً على أهواء أنفسها، وأهواء ذوي النفوذ والتأثير فيها، فماذا كانت النتيجة؟ {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا}[الطلاق: الآية 8]، فحاسبها الله وعاقبها، والحساب هذا يأتي جزءٌ كبيرٌ منه في هذه الحياة، وهذا العذاب النُكُر يأتي في هذه الحياة، ونجد في القرآن الكريم ما حل بكثيرٍ من الأمم والأقوام، وهي نماذج محدودة عرضها لنا القرآن الكريم، ونجد في زمننا هذا ما تعانيه البشرية من عناء شديد وعذاب شديد على كل المستويات، {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا}[الطلاق: الآية 9].
يحكي القرآن الكريم في تلك النماذج أنواعاً من العقوبات، حتى أنه حكى لنا عمَّا حلَّ ببعضٍ من بني إسرائيل الذين كانوا يعتدون في السبت، وكانوا يفسقون، فوصل الحال بهم إلى أن مسخ الله أهل تلك المعاصي إلى قردة خاسئين والعياذ بالله، تجد إلى هذا المستوى من العقوبات الإلهية على الأعمال، على المعاصي، على الذنوب، أنها تشكل خطورةً كبيرة على الناس.
فمع ذلك التحذير من النار، والتحذير من العقوبات العاجلة في الدنيا، والتحذير بما حل بالأمم الماضية، والتحذير من العقوبات المتنوعة التي قد تطال الإنسان في نفسه، أو في رزقه، أو في ممتلكاته… تطال المجتمع كمجتمع، نجد الله -سبحانه وتعالى- يدعونا- في نفس الوقت- إلى الإنابة إليه، ويفتح لنا الباب: باب التوبة، باب الرحمة، باب المغفرة؛ لننيب إليه، لنرجع إليه، يقول -جلَّ شأنه- في كتابه الكريم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}، يوجه هذا النداء بكل رحمة وبكل رأفة، نداءً رقيقاً جدًّا، نداء رحمة، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}؛ لأن الإنسان بالمعاصي هو يسرف على نفسه، يتجاوز الحد، وهو يظلم نفسه، وهو يسبب لنفسه الشقاء في الدنيا، والعذاب في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة.
وهو ينادي هذا النداء: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}[الزمر: 43-54]، فهو ينادي كل عباده الذين أسرفوا على أنفسهم، وما من إنسان إلا وهو مسرفٌ على نفسه، تتفاوت المستويات في هذا الإسراف، تتفاوت من إنسان إلى آخر، من مجتمع إلى مجتمع، طبيعة ومستوى الالتزام الديني والأخلاقي بتوجيهات الله وتعليماته -سبحانه وتعالى- والإنسان بحاجة إلى أن يغتنم فرصة هذا النداء، الله يفتح باب التوبة، ويدعو إليه، وفي نفس الوقت يعد بالمغفرة على كل الذنوب، ويحذر من اليأس والقنوط من رحمة الله -سبحانه وتعال-؛ لأن اليأس والقنوط قد يدفع البعض إلى الاستمرار في المعاصي والذنوب، وقد يمثِّل صداً لهم وعائقاً لهم عن الإقبال إلى الله وعن التوبة، يظن أنه لا فائدة من التوبة، وأن الله لن يتوب عليه، ولن يغفر له، والله -سبحانه وتعالى- يحذر من هذا اليأس وهذا القنوط، ويدعو إلى المبادرة والإسراع بالتوبة والإنابة، والله وعد بالمغفرة: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}، المطلوب هو الإنابة إلى الله والرجوع الصادق نفسياً، يتخذ الإنسان قراراً بالعودة والإنابة إلى الله -سبحانه وتعالى- وعملياً، {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}[الزمر: الآية 54]، قبل العذاب، ما الذي تنتظر؟ لا بدَّ من العذاب على الذنب إن لم تتب، لا يدفع عنك العذاب إلا التوبة؛ أما الإصرار على الذنوب، الإصرار على المعاصي، الذنوب ما كان منها بشكل تعدٍ لحدود الله وارتكاب جرائم، وما كان منها تقصيراً وتفريطاً في الواجبات والطاعات التي أمرنا الله بها وأرشدنا إليها، والمسؤوليات التي حمَّلنا إياها.
كلا هذين الجانبين من الذنوب علينا أن نبادر بالتوبة إلى الله -سبحانه وتعالى- والإنابة إليه قبل العذاب، لا بدَّ من العذاب إن لم يُنِب الإنسان ولم يتب، ولا أحد يمكن أن ينصره، ولا أن يدفع عنه أبداً.
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}[الزمر: الآية 55]، أن يبادر الإنسان قبل أن يأتي العذاب بغتة، في الوقت غير المتوقع، وفي الحال غير المتوقع، والإنسان غافل.
نداء للمؤمنين: توبوا إلى الله
نداءٌ آخر يوجهه الله -سبحانه وتعالى- إلى عباده الذين آمنوا، وهو نداءٌ عظيمٌ ونداءٌ مهمٌ جدًّا، يقول -جلَّ شأنه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ لأن البعض من الناس يتصور أن الانتساب والانتماء الإيماني أصبح بطاقة ترخيص يكفي أن يقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، ثم يفعل ما يشاء ويريد من المعاصي والذنوب ويدخل الجنة. |لا| هذه فكرة غير صحيحة إطلاقاً، الدين هو جاء لتزكية النفوس، ولإصلاح الإنسان، ولإصلاح أعمال الإنسان، والجنة والنار هما جزاء على العمل، وفي الدنيا والآخرة جزاء على العمل، والله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزلزلة: 7-8]، لكن الله فتح باب التوبة، التوبة إليه، هنا يوجه نداءه إلى الذين آمنوا أن عليهم أن يبادروا بالتوبة إلى الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}[التحريم: من الآية 8]، المطلوب من الجميع أن يتوبوا إلى الله، كل إنسان هو مقصر، كل إنسان هو مذنب، كل إنسان يصدر من جانبه أخطاء، ويقصر في أشياء، ولكن يتلافى ذلك بماذا؟ بالتوبة إلى الله، بالرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى- رجوعاً بالندم على التقصير، وبالندم على المعصية، وبالندم على الذنب، وبالإقلاع عن الذنوب، وبالعزم على تركها، وعلى عدم العودة إليها، وهكذا حالة يستمر الإنسان عليها، وبتوجهٍ جادٍ وصادق.
{تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}، هذه التوبة الجادة التي هي توبة كاملة وخالصة؛ الإنسان توجه بكل صدق إلى الله -سبحانه وتعالى- وبكل جد، نادماً على معصيته، على ذنوبه، على تقصيره، ليس راضياً بذنوبه، ليس راضياً عن أخطائه، ليس راضياً عن تقصيره، بل يندم ويدرك أنه قصَّر في جنب الله -سبحانه وتعالى- وأساء إلى ربه العظيم الكريم المنعم الخالق، وجلب على نفسه بذلك الشر والخطر، وأنه بحاجة إلى أن يدفع عن نفسه، فتكون توبةً جادةً صادقةً كاملةً، لا يبقى الإنسان متردداً، أو يبقى عازماً في نفسه على العودة إلى الذنب، ويتصور أن المسألة مسألة استغفار مؤقت، ثم يعود إلى الذنب، أو لا يتخلص من آثار ذلك الذنب، من المظالم إن كانت مظالم لعباد الله، أو نحواً من ذلك، فالمطلوب أن تكون هذه التوبة جادة وصادقة، وتوجهاً جاداً للإقلاع عن المعصية، وعن الذنب، وعن التقصير.
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التحريم: الآية 8]، تُب إلى الله لتنال المغفرة، لتنال التكفير لسيئاتك، ليدفع الله عنك الخزي والفضيحة يوم القيامة، لا تكون ممن يفتضحون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، لتكون في موكب النور مع نبي الله ورسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ومن معه من المؤمنين التائبين المنيبين الصادقين، الذين يمنحهم الله في ذلك اليوم هذا الشرف وهذا التكريم، وهم يتحركون في موكبهم: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}[الحديد: من الآية 12]، هذا الشرف الكبير، لتحظى بهذا الشرف، ولتنال هذا الشرف، لا تكون مع المفضوحين، لا تأتي يوم القيامة وصحيفة أعمالك مليئةٌ بالفضائح والمخازي، نعوذ بالله، ونستجير بالله! بل لتحظى بهذا الشرف، وتكون مستوراً بستر الله وبمغفرته وبتكفير السيئات منه.
هذه دعوة يفترض أن الإنسان يحرص على الاستجابة لها، لا يبقى الإنسان مصراً على المعصية.
نكتفي بهذا المقدار، إن شاء الله نستكمل الموضوع في المحاضرة القادمة.
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يغفر لنا ولكم، وأن يجعلنا وإياكم من عباده التائبين، والمستغفرين، والمنيبين، والخاشعين، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛