قوا أنفسكم وأهليكم ناراً
تفاصيل مهولة عن عذاب جهنم!!
أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
نواصل الحديث على ضوء الآيات المباركة التي تحدثنا عنها بالأمس، وبعضٍ من الآيات المباركة الأخرى التي نتحدث عنها في سياق الحديث عن اليوم الآخر: عن القيامة، عن الحساب، عن الجزاء، عن الجنة والنار، ذلك المستقبل الآتي الذي لا ريب فيه، ولا بدَّ منه، والموضوع الرئيسي- كما قلنا- منذ بداية الحديث هو: العمل، وأهمية العمل، وما سنجازى عليه في أعمالنا.
بالأمس تحدثنا عن أهل الجنة، وعمَّا هم فيه من النعيم العظيم على ضوء آيات من القرآن الكريم، وهناك الآيات الكثيرة التي لم نتحدث عنها، من خلال تلاوة القرآن الكريم يستفيد الإنسان، ويتأثر، وينشد، ويرغب إلى الله -سبحانه وتعالى- وفيما وعد الله -سبحانه وتعالى- ويعي قيمة وأهمية العمل الصالح، قيمة وأهمية ما وجهنا الله إليه في القرآن الكريم، ورغَّبنا عليه بذلك الجزاء العظيم، بذلك الثواب العظيم، بذلك الأجر الكبير.
يتحدث القرآن الكريم أيضاً وينقل لنا تفاصيل عن ذلك المستقبل المهم والخطير والكبير، تتعلق بالذين خسروا، بالذين هلكوا، بالذين كانت أعمالهم السيئة سبباً لهلاكهم في يوم القيامة، كان تقصيرهم وتفريطهم في الأعمال العظيمة، والأعمال الصالحة، وما وجَّه الله إليه -سبحانه وتعالى- من العمل الذي فيه النجاة والفوز، يتحدث القرآن الكريم عن أحوالهم لينذرنا؛ لأنك قد تكون واحداً منهم، قد تكون أنت أيُّها العزيز، وقد تكوني أنتِ أيَّتها العزيزة، قد يكون أي واحدٍ منا هو ذلك الذي يعيش كل تلك التفاصيل، الذي يخسر، الذي يهلك، الذي يخيب، الذي يكون مصيره إلى جهنم والعياذ بالله.
إن الله -سبحانه وتعالى- حينما قدَّم إلينا بالوعيد، وحينما أنذرنا وحذرنا وأخبرنا عن تلك التفاصيل الرهيبة والمخيفة جدًّا؛ من أجل أن نخاف في هذه الحياة، من أجل أن نستقيم في أعمالنا في هذه الحياة، من أجل أن نستشعر مسؤوليتنا في هذه الحياة، من أجل أن نسعى لأن نقي أنفسنا من خلال العمل الصالح، وبالالتجاء إلى الله -سبحانه وتعالى- وبالتوبة والإنابة والتخلص من المعاصي والذنوب نقي أنفسنا من كل ذلك العذاب.
ويصدر الأمر بعملية النقل إلى جهنم: خذوه فغلوه!
في ساحة المحشر، وبعد اكتمال الحساب يأتي الأمر من الله -سبحانه وتعالى- بتجهيز أهل النار؛ لنقلهم إلى النار، وهي حالة رهيبة جدًّا، بعد عملية الفرز، وبعد صدور الحكم الإلهي الذي لا يستطيع أحد أن يعقِّب عليه، ولا أن يلغيه، ولا أن يقدِّم استئنافاً عليه، ولا يمكن للإنسان أيضاً أن يكون له هناك محامٍ بارع، أو أن يكون له وساطات ذات ثقل وتأثير فتلغي حكم الله، وتشطب ما قرره الله -سبحانه وتعالى- من تفريقٍ بين المحسن والمسيء، وتلغي ما قد قدمه الله -سبحانه وتعالى- من الوعيد، وهو القائل: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ}[ق: من الآية 29]، {مَا يُبَدَّلُ}، أحكام قد صدرت واضحة ومحددة، من تنطبق عليه تلك الأحكام فلا يمكن أن يتمكن من إلغائها بأي وسيلةٍ، بأي طريقةٍ، بأي حيلةٍ، بأي فديةٍ، بأي طريقة أبداً، حالة خطيرة جدًّا، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر: الآية 38].
عندما يأتي الأمر من الله -سبحانه وتعالى- لملائكته، وهم الزبانية: الشرطة الإلهية المعنية والمتخصصة في نقل أهل النار إلى النار، {خُذُوهُ} أمرٌ من الله -سبحانه وتعالى- {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}[الحاقة: الآية 30]، قد تكون أنت هذا الذي يأتي هذا الأمر الإلهي بغلّه، بتقييده بقيود الله -سبحانه وتعالى- القيود الرهيبة، القيود التي ستبقى مقيداً بها لا تنفك عنك، ولا تستطيع أن تتخلص منها، وتتحول إلى جزءٍ مستمرٍ من عذابك وآلامك، والضيق الذي ستعاني منه بشكلٍ مستمر، {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}.
{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقة: الآية 32]، ليس فقط القيود التي ستغل بها اليدان إلى الرقبة. |لا| إنما أكثر من ذلك السلاسل التي ستوثق بها، وهي حالة رهيبة جدًّا، الله -جلَّ شأنه- قال: {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر: الآية26].
ولا يستطيع ذلك الجمع الهائل من البشر، وهم الأغلبية الساحقة من البشر الذين سيذهب بهم إلى جهنم، عند عملية تجميعهم وبداية نقلهم، وقت ما هم يحشرون وينقلون في الاتجاه الذي سيذهبون من خلاله إلى جهنم، وينقلون من خلاله إلى جهنم، مع كثرتهم الهائلة، وحشودهم الكبيرة، وجمعهم الغفير، لكنهم لا يستطيعون أبداً أن يدفعوا عن أنفسهم ذلك، أن يمتنعوا عن الانتقال؛ لأنهم في حالةٍ من العجز والضعف والاستسلام، بل إن الله -سبحانه وتعالى- يقول لهم، قال -جلَّ شأنه-: {وَقِفُوهُمْ}، أثناء عملية التحريك لهم والنقل لهم، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}[الصافات: الآية 24] سؤالاً واحداً، هذا السؤال ما هو؟ {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ}[الصافات: الآية 25]، أنتم في جمعكم الكبير والهائل، أنتم من كنتم في الدنيا تتعاونون على الباطل، وتتناصرون على الباطل، وتتحالفون على الإثم والعدوان، وكنتم في الدنيا تتعصبون لبعضكم البعض، البعض قد يكون في هذه الدنيا يعتز بجيشه ويمتنع بجيشه، البعض في هذه الدنيا قد يكون يمتنع بقبيلته، وتتعصب له في الموقف الباطل، وتهب معه لتقف إلى جانبه حتى لو كان ظالماً، أو كان مفسداً، أو كان في الموقف الخاطئ. لا القوم، ولا القبيلة، ولا الجيش، ولا الأمة، ولا أي انتماء ولا أي إطار كنت تستند إليه في هذه الدنيا يمكن أن يقف معك، أو يحميك، أو يدفع عنك.
التجمعات تلك الحاشدة والهائلة جدًّا، وهم ينقلونها إلى جهنم يقول الله لهم: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ}، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ}[المرسلات: الآية 39]، أين تلك المخططات، أين تلك المؤامرات، الخطط الرهيبة، الكيد الرهيب الذي في الدنيا كادت تزول منه الجبال، أين هو؟ أين أولئك المخططون والبارعون في مكرهم وفي حيلهم أين هم؟ أين أصحاب المهارات العسكرية، والقدرات العسكرية، والمعنويات العالية، والشجاعة الكبيرة؟ أين أولئك الطغاة والمتجبرون والقساة القلوب؟ أين كل تلك القوة والإمكانات الهائلة التي كانت بأيديكم في الدنيا تتسلطون بها، وتظلمون بها، وتمتنعون بها، أين ذلك كله؟
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}[الصافات: الآية 26]، الكل في حالةٍ من الاستسلام والخضوع التام، والانسياق رغماً عنهم، ينقلون رغماً عنهم، لا ينتقلون برغبتهم، ولا يذهبون إلى نار جهنم باندفاع وتفاعل، وخطوات يتقدمون بها بلا اكتراثٍ ولا مبالاة. |لا| الله يقول -جلَّ شأنه- عن عملية نقلهم أنها إجبارية، رغماً عنهم.
كان الكثير في الدنيا يتثاقلون، ولا يخطون الخطوات فيما هو رضا لله -سبحانه وتعالى- فيما فيه نجاتهم من عذاب الله، فيما فيه الخير لهم، الخطوات التي يكتب لك على كل خطوة أجر وحسنة، {وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ}[التوبة: من الآية 121]، في الحركة في سبيل الله كل خطوة لك عليها أجر وثواب، فيتثاقلون، في الانتقال إلى الأعمال الصالحة يتثاقلون مع أنه على كل خطوة حسنة.
هناك ينقلون رغماً عنهم، يقول الله -جلَّ شأنه-: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور: الآية 13]، يدفعون دفعاً رغماً عنهم، ويجبرون على ذلك، وينقلون برغم أنوفهم، {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ}[الرحمن: من الآية 41]، منهم من يسحب ويؤخذ برأسه، منهم من يسحب بقدميه ويدفع دفعاً، وينقل نقلاً إجبارياً وهكذا، حتى يصلوا إلى شفير جهنم والعياذ بالله، وهي من اللحظات الرهيبة جدًّا جدًّا جدًّا، لدرجة أن الإنسان عندما يصل إلى شفير جهنم يحاول أن ينكر من جديد ما قد ثبت عليه في ساحة المحشر، ما قد رآه هو بنفسه في صحيفة أعماله، ما قد ثبت عليه بالشهود، هناك يحاول من جديد أن ينكر، ولكن تأتي الاثباتات الدامغة التي لا يملك معها أن يكابر أبداً.
لا مجال للإنكار فالشهود: الجلود والأسماع والأبصار!
{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا}، فإذا وصلوا إلى شفير جهنم والعياذ بالله، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[فصلت: الآية 20]، يشهِد الله عليهم من حواسهم: السمع والبصر، وتشهد عليهم جلودهم، وهي حالة لا يمكن للإنسان بعدها أن يكابر أبداً، شهد عليه حتى جلده، يندهشون، يتفاجؤون من ذلك، ويصل بهم الاندهاش والتفاجؤ جدًّا من شهادة حتى جلودهم عليهم أن يوبخوا جلودهم، وأن يعاتبوها، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا}؛ لأنها شهادة لم يملكوا بعدها أن يكابروا أبداً، لم يبق لهم ما يقولون بعدها أبداً، {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا}، تجيبهم جلودهم، فماذا تقول لهم؟ {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ}، ما كنت تتوقع هذا، ولا كنت تملك في الدنيا أن تستتر، قد تستتر في هذه الدنيا لارتكاب بعضٍ من المعاصي في غرفةٍ مغلقة، قد تذهب إلى مكانٍ لتختفي فيه فلا يراك الناس، قد تستتر بأي وسيلةٍ من الوسائل، قد تختفي، قد تختلي، لكن سمعك ولكن بصرك لا يمكن أن تختفي منه، هي حواسك التي هي مركبةٌ فيك، ولا من جلدك، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ}، هل يمكن أن تستتر من جلدك؟ هل يمكن أن تختفي حتى لا يراك جلدك، حتى لا يوثق عليك ما تعمل؟ كل شيءٍ موثق بدقة، الإثباتات والشهود مع رقابة الله، ورقابة الله فوق كل شيء؛ لأن الله يعلم ما توسوس به نفسك، {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: من الآية 19]، يعلم ذلك بكله، حالة رهيبة جدًّا، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ}[فصلت: الآية 21]، وهي حالة رهيبة جدًّا لا يملك الإنسان بعدها أن يكابر.
وفتحت الأبواب الجهنمية والدخول بلا ازدحام!
حينما يصلون إلى شفير جهنم، وإلى أبواب جهنم، وهي كما قال الله -سبحانه وتعالى- عنها: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر: الآية 44]، وهم موزعون بحسب جرائمهم وجناياتهم وتفريطهم وعصيانهم إلى دركات جهنم، فالجنة درجات، وجهنم دركات.
الدرك الأسفل في جهنم لمن هو؟ هناك فئة ممن يعذبون في الدرك الأسفل من النار، في أشدها عذاباً، في أشدها ألماً، هم المنافقون، الله -جلَّ شأنه- قال في القرآن الكريم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء: الآية 145]، والمنافق ينتمي للإسلام، ويصلي ويصوم، وهو من بين المسلمين، يعيش فيما بينهم، وبطاقته إذا معه بطاقة، وهويته إذا معه هوية معينة (جواز أو غيره)، سيكون دينه مسلماً، {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}[المنافقون: من الآية 1]، كانوا يقولون هكذا، الله يقول عنهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}، في أشد موضعٍ في جهنم عذاباً والعياذ بالله.
ولاحظوا كيف يندهش خزنة جهنم، الملائكة الموكلون بعذاب أهل النار في النار، عندما تصل تلك الحشود الهائلة، والمجاميع الكبيرة، والأفواج الكثيرة العدد (بالمليارات من البشر)، عندما يصلون إلى شفير جهنم، يندهش الملائكة هناك، ولكن ليس هناك الاستقبال بالتكريم، والاستقبال الإيجابي، ولكنه التوبيخ، {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} والعياذ بالله! فتحت تلك الأبواب السبعة، الأبواب الهائلة، الأبواب الجهنمية، {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا}، وهم يندهشون من كثرتهم، من أعدادهم الهائلة جدًّا، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى}[الزمر: من الآية 71]، قد أتت الرسل، وأتى النذير بلقاء هذا اليوم، أتى التحذير من هذا اليوم، أتت حتى تفاصيل، حتى هذا التفصيل، حتى هذه اللحظة، ربما البعض يتأمل، يتذكر أنه قد عرف حتى عن هذا المشهد، وقد سمع بهذا المشهد وهو في الدنيا، نقلت إليه من القرآن هذه الصورة وهو في الدنيا، وأمامه الفرصة الكافية ليتلافى نفسه وتقصيره، وليعمل على ما فيه نجاته من تلك اللحظة الرهيبة، ومن ذلك المستقبل الرهيب جدًّا والعذاب العظيم، {قَالُوا بَلَى}، حالة رهيبة جدًّا هناك.
وعندما تفتح الأبواب هل سيتزاحمون على الدخول وهم يندفعون كلٌ يريد أن يدخل هو الأول؟ |لا|؛ إنما يلقى بهم إلقاءً داخل جهنم، تأخذهم الملائكة وتدفعهم وتلقيهم إلقاءً، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}[الملك: من الآية 8]، من جديد عندما يلقى إلى جهنم، وهي حالة كيف سيكون حال الإنسان عندما يلقى إلى جهنم؟! كيف سيكون خوفك وقلقك واضطرابك النفسي لو تلقى في فرن من الأفران العادية في هذه الدنيا، وهم يأخذونك قسراً وإجباراً ويريدون أن يدخلوك فيه، وأن يحنذوك فيه، وأن يصلوك فيه، كيف سيكون رعبك وقلقك وخوفك؟! أمر رهيب؛ أما جهنم فهي عذاب الله الأكبر، العذاب الشديد، العذاب المهين، النار قال عنها الله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان: الآية12]؛ أما وقد وصلوا إليها كيف هي أصوات استعار نيرانها؟! كيف هو القصيف الهائل؟! كيف هي الأصوات الرهيبة جدًّا والشهيق والزفير الذي هو من أصواتها المخيفة جدًّا، حتى الأصوات في جهنم أصوات مرعبة جدًّا ومخيفة للغاية، كيف هي مشاهد استعار النيران فيها والدخان الهائل، كيف هي المشاهد للشرر الذي يتطاير وهو كالقصر، شرر (كتل هائلة جدًّا) تتطاير من شدة التوقد والإستعار داخل جهنم والعياذ بالله! كيف هي مشاهد الحميم الذي يسيل فيها ودياناً وأنهاراً، شيءٌ منها من الصديد، شيءٌ منها من الحميم الذي يغلي، كلها مشاهد رهيبة ومهولة.
دع الغفلة وانتبه الآن قبل: لو كنا نسمع أو نعقل!
الإنسان عند إدخاله إليها وعند إلقائه فيها كيف ستكون آلامه وحسرته، يتذكر في تلك الحالة أنه في الدنيا كان قد أنذر، كان قد حُذِّر، آيات الله في القرآن الكريم فيها هذه التفاصيل التي أنذرته عن تلك المواقف موقفاً بموقف ومرحلةً بمرحلة، ولهذا ماذا يقولون في تلك اللحظات بعد إلقائهم إلى جهنم، وهم في حالة من الخوف، والألم الشديد، والرعب الشديد، والعناء الشديد، والألم الشديد؟ {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: الآية 10]، لو كنا في الدنيا نسمع، نسمع آيات الله، نسمع النذير، نسمع الذكرى، نسمع الموعظة، فالبعض حتى أثناء الاستماع، حتى وهو يستمع المحاضرة، حتى وهو في المسجد، حتى وهو يقرأ القرآن لا يعطي نفسه حتى فرصة التركيز والإصغاء، والاستماع النافع الذي يتأثر به، ويتذكر به، وينتفع به.
الله يقول عمَّا قدَّم من النذر في القرآن الكريم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق: الآية 37]، من يلقي السمع وهو حاضرٌ بلبه، بذهنه، بتركيزه، يصغي، يستوعب، يتفهم؛ أما الذي حتى إذا ذُكِّر، حتى إذا تليت عليه آيات الله، حتى إذا قرئ عليه القرآن، حتى عند الموعظة والذكرى، لا يركز، لا يلتفت، لا يصغي، لا يسمع، لا يتفهم؛ لا ينتفع في نهاية المطاف ولا يستفيد، يبقى قلبه قاسياً، ويبقى لاهياً، ويبقى غافلاً، ويبقى مستهتراً، ويبقى متهاوناً، ويبقى جريئاً على مخالفة توجيهات الله -سبحانه وتعالى- يبقى متكاسلاً عن الأعمال المهمة والعظيمة والصالحة والمفيدة.
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك : 10-11]، هذه هي مشكلتهم، هذا هو ذنبهم الكبير الذي تفرعت عنه سائر الذنوب: غفلة، عدم التفات إلى النذير، عدم التفات إلى الذكرى، {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ}، وهل يفيدهم هذا الاعتراف؟ هل سيقال لهم: [جيد، بما أنكم اعترفتم بذنبكم ستقدم لكم تخفيفات في العقوبات]، في الدنيا قد تقول لك الشرطة: [إذا اعترفت وتعاونت ستخفف عليك الإجراءات العقابية]. هناك |لا| {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: الآية 11]، سحقاً لهم وبعداً لهم، استمراراً فيما هم فيه من العذاب، وضياعاً فيما هم فيه من العذاب والعياذ بالله، لا رحمة بهم أبداً، ولا ذرة من الرحمة.
كانت الرحمة تعرض لهم في الدنيا فلم يقبلوها، أتت رحمة الله، قرآنه رحمة، هدايته رحمة، توجيهاته رحمة، ومستقر رحمته هي الجنة، أولئك الذين لم يقبلوا، لم يلتفتوا، استهتروا وتهاونوا؛ خسروا.
ثياب جهنم وطعامها وشرابها والغسل فيها!
في نار جهنم كل شيءٍ عذاب، بدءاً من الملابس، في كثيرٍ من الدنيا إذا دخل الإنسان السجن هناك ملابس مخصصة للسجن، فما هي الملابس المخصصة في نار جهنم؟ حتى الملابس من النيران، ومفصلة تفصيلاً كاملاً على الإنسان، ربما الله أعلم كم هي الأنواع؟ هل شيءٌ منها سيفصل ليقوم مقام البنطلون والقميص؟ أم مقام الثوب… أو أي شكل؟ الحالة هي كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}[الحج: من الآية 19]، تفصيلٌ عليهم بالكامل نيران، يبقى عليك هذا الثوب الناري المباشر بحرارته لجسمك بشكلٍ مستمر والعياذ بالله، الله أعلم كيف سيكون شكل ذلك الثوب الناري المفصل عليك، والمقطع والمفصل بما يكون عليك تماماً والعياذ بالله؟!
الطعام عذاب، شجرة الزقوم التي تغلي في البطون كغلي الحميم، والتي هي لا تشبع، {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا}، من شدة الجوع، {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}[الصافات: الآية 66]، يأكلون ويأكلون ويأكلون ولا يحسون بالشبع، يبقى عذاب الجوع مستمراً حتى تمتلئ بطونهم من تلك الثمرة التي تغلي في البطون كغلي الحميم والعياذ بالله، حرارة شديدة جدًّا، وقت أكلها، عندما تتناولها، كيف هي حرارتها في فمك، كيف حرارتها وهي تنزل إلى بطنك، ثم حرارتها في بطنك وهي تغلي في بطنك كغلي الحميم والعياذ بالله.
{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ}[الصافات: الآية 67]، الذي سيشربونه عليها بدلاً عن العصير، بدلاً عن المشروبات الغازية، بدلاً عن المياه المعدنية، حالة رهيبة جدًّا، كل شيءٍ عذاب، الشراب قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف: من الآية 29]، حالة رهيبة جدًّا، ما أشد العطش في جهنم، من أشد أنواع العذاب في جهنم هو العطش، وعطشٌ لا يرويك منه أي شيءٍ من شراب جهنم، لا ذلك الحميم الذي هو كالمهل، ليس ماءً نقياً، وليس حتى حميماً نقياً، ولكنه {كَالْمُهْلِ}: كحثالة الزيت في مذاقه، في شكله، في حرارته البالغة، حرارة شديدة جدًّا، تصل درجة الحرارة فيه إلى أن يشتوي منه وجهك أول ما يقرب إليك لتشرب، كيف حرارته في فك، كيف حرارته في رقبتك، كيف حرارته في أمعائك، {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}[محمد: من الآية 15]، يقطع الأمعاء من شدة الحرارة، وآلام رهيبة جدًّا، كل شيءٍ يرافقه من الآلام ما كان يكفي لقتلك، ولموتك، ولهلاكك لو بقي موت، آلام شديدة جدًّا، تأكل وأنت تشعر بالآلام الشديدة، آلام شديدة جدًّا، تشرب من ذلك الحميم، تشرب الصديد، قال عنه الله -سبحانه وتعالى-: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}[إبراهيم: من الآية 17]، كل جرعة كانت تكفي لأن تكون قاتلة، كانت تكفي لأن تكون مميتة، كل جرعة من ذلك الصديد القذر، الذي هو- مع قذارته ونتنه ومذاقه البشع جدًّا– في منتهى الحرارة والشدة، فرائحته قذرة ونتنة جدًّا، ومذاقه قذرٌ، وشكله قذرٌ، وحرارته رهيبة جدًّا ومميتة لو بقي موت، ولكن ما بقي موت، وجرعة بعد جرعة، كل شيء بعذاب.
الحركة في جهنم حركة والنقل لأشياء كثيرة أنواع وأصناف من العذاب يعذِّبك بها أولئك الملائكة، عندما يذهبون بالإنسان ليغتسل غسل جهنم، غسل رهيب، من أسوأ حالات العذاب في جهنم والعياذ بالله، الله يقول: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}[الدخان: الآية47]، عتل يعتل به، يعني: يؤخذ ويساق سوقاً عنيفاً؛ لأن الإنسان الذي يُذهَب به إلى تلك الحالة الرهيبة جدًّا، يخاف للغاية، وعندما يجرب أن يغتسل ذلك الغسل كل مرة يأتون إليه سيخاف، ويحاول أن يمتنع، ولكنهم يأخذونه رغماً عنه، فيعتلوه، العتل: الأخذ والسوق بعنف وشدة وقوة إلى مكان في جهنم، قال عنه الله: {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}، من أسوأ الأماكن في جهنم وأشدها عذاباً، بعد أن يصل: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}[الدخان: الآية 48]، نعوذ بالله! عذاب رهيب جدًّا، ذلك الغسل يقول الله عنه في آيةٍ أخرى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}[الحج: الآية 20]، يذوب فيه جلد الإنسان، يذوب من شدة حرارته جلده، حالة رهيبة جدًّا، وألم شديد جدًّا.
وهم يصطرخون فيها.. لا مجال للدعاء أبداً!!
في تلك الحالات من العذاب الشديد، والعناء الرهيب، لا شيء ينفعهم، يستغيثون فلا يغاثون، يتضرعون إلى الله بالدعاء، في الدعاء الله ينادينا في الدنيا أن ندعوه، يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: من الآية 60]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: من الآية 186]، فقط طلب منا طلباً واحداً: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: من الآية 186]، يحثنا على الدعاء، يرغِّبنا في الدعاء، ويأمرنا أن نستجيب لدعوته؛ ليستجيب لدعائنا، ولكن الكثير من الناس غفلوا عن هذا، وإذا دعا يدعو بشكل ليس فيه أي شيءٍ من الإقبال بذهنه ونفسيته ومشاعره، لا يدعو دعاءً جاداً، يتوجه من قلبه إلى الله -سبحانه وتعالى- أكثر ما يدعو الإنسان يدعو وهو في حالة من الانشغال الذهني، واللامبالاة، واللا اهتمام، واللا جدية، وبفقدان لهذا التوجه الذي ينبغي أن يكون حاضراً عندما تدعو الله -سبحانه وتعالى.
هناك سيدعون الله، يتضرعون، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا}[فاطر: من الآية 37]، صراخ مرافق له حالة من التخبط، من التألم، من الحالات الرهيبة جدًّا، وهم في حالة يتصرَّعون بين نيران جهنم، ويتقلَّبون، يقومون ويقعدون، حالة رهيبة جدًّا، ليس لهم وضعية استقرار، يضطجع ويهدأ. |لا| حالة من التقلب والقيام والقعود، يرجم بنفسه من هنا إلى هناك، ويصرخ في عذاب شديد، يتلوى، يتأوه، يبكي، يتجهون بالدعاء من كل أعماق قلوبهم، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}[فاطر: من الآية 37]، هل يستجيب الله لدعائهم لأنهم في حالة من الخشوع الشديد، والبكاء، والتضرع، والتوجه من أعماق قلوبهم؟ |لا| فات وقت الدعاء، وقت الدعاء هو هنا، كان الله يدعوك لأن تدعوه، يأمرك بدعائه، يقدِّم لك حتى أوقاتاً مميزة جدًّا للدعاء، وأسباباً مفيدة جدًّا في الدعاء، فكنت أنت من لا تبالي بكل ذلك، الله يرد عليهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا}[فاطر: من الآية 37]، الحالة ليس فيها أي رحمة أبداً، يصطرخون بين تلك العذابات، والنيران تلفح وجوههم، وقد كلحت وجوههم، وانقشعت شفاههم من شدة الحرارة، وبدت كل أفواههم، أسنانه بادية بارزة، انقشعت شفتاه من شدة النار، في تلك الحال وهم يصرخون ويتأوهون ويدعون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون: 107-108]، {اخْسَئُوا}: هذا هو الرد عليهم، بعدها يمنعون حتى من الدعاء، {وَلَا تُكَلِّمُونِ}، لا يسمح لهم بأن يدعوا الله، حالة رهيبة جدًّا.
يطلبون التخفيف بعد أن يئسوا من الخروج، يقولون: [خلاص ما دام لا يمكن الخروج من جهنم فالتخفيف]، بين ملايين السنين من العذاب الذي لا ينقطع ولا لحظة واحدة يرتاحون فيها، يطلبون من الملائكة، {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ}[غافر: الآية 49]، بين كل تلك الملايين من السنين التي لا تنتهي يطلبون يوماً واحداً يتخفف، فماذا يجيبون عليهم؟ هل سيدعون لهم؟ هل سيتوسطون لهم؟ {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا}[غافر: من الآية 50]، يعني: لن ندعوا لكم نحن أبداً، ولن يفيدهم دعاؤهم، قد قال الله لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}، لا فائدة من ذلك، حتى التخفيف، عناء لا نهاية له، كيف يكون تعب الإنسان إذا استمر له ألم لأيام؟! إذا استمر له غم وحزن لساعات، كيف يبلغ به التعب (الإرهاق)، كيف يبلغ به الضيق النفسي؟! فما بالك بذلك الذي لا ينتهي.
الموت مستحيل والخروج مستحيل!
لا تخفيف ولا خروج، يطلبون الموت (الهلاك)، الموت بالنسبة لهم أمنية يتمنونها، وستكون أكبر نعمة، الإنسان في الدنيا كم يخاف من الموت، كم يترك الأعمال العظيمة ومنها الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى- قلقاً من الموت، مع أنه في سبيل الله هناك الشهادة بدلاً عن الموت، والحياة الطيبة للشهداء، هناك ماذا يقولون؟ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ}[الزخرف: من الآية 77]، هذا مالك هو خازن النار، {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}[الزخرف: من الآية 77]، {لِيَقْضِ}: ليهلكنا، ليميتنا، فماذا يقول لهم؟ {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}[الزخرف: من الآية 77]، لا موت، إنما تستمرون في هذا العذاب للأبد.
لا تفيد كل هذه التوسلات والتضرعات والمطالب، ماذا يحاولون؟ يحاولون أن يخرجوا، يحاولون أن يُجهِدوا أنفسهم وأن يتحركوا بين نيران جهنم في عالمها المتعب جدًّا، كله نار، الانتقال فيها صعب جدًّا، وهم مثقلون بالسلاسل وبالقيود، والحركة فيها صعبة جدًّا، وعذاب شديد، الحركة في جهنم هي- بحد ذاتها- عذابٌ شديد، بين نيرانها، بين وديانها، بين أماكنها الضيِّقة، بين براكينها الهائلة، أمور هائلة جدًّا ورهيبة للغاية، {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}[الحج: الآية 21]، مقامع من حديد بيد الخزنة، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج: الآية 22]، بعد أن يقطعوا شوطاً كله عذاب، بعد أن يمشوا مسافة كلها عذاب شديد، تتلقاهم الملائكة من خزنة جهنم بتلك المقامع الرهيبة، ويضربونهم بها بشكلٍ مؤلمٍ ومهين؛ لإعادتهم إلى حيث كانوا من النار والعياذ بالله، {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}، وكربٌ لا نهاية له، كربٌ لا نهاية له، ما هناك في هذه الحياة شيءٌ أبداً في مستوى أن تخاطر من أجله وتصل إلى نار جهنم، لا فيما تعمله من معاصي من أجل رغبات نفسك وشهواتها، وأطماع نفسك وأهوائها، ولا فيما تفرِّط فيه من الأعمال الصالحة، إما طلباً للراحة، أو تكاسلاً.
تقدم التحذير الإنذار فلا حجة للمجرمين
الله -سبحانه وتعالى- كم قدَّم في القرآن من التفاصيل، هذه بعضٌ منها، الكثير والكثير من التفاصيل في كتب الله السابقة مع أنبيائه ورسله السابقين، ولكن في القرآن ما يكفي، ولكن كلما كان مع الأنبياء السابقين وفي كتب الله السابقة حجة على الأمم السابقة من قبلنا، التحذير والإنذار من الله -سبحانه وتعالى- عن طريق رسله وأنبيائه، وهو يحذِّرنا من هذا العذاب تكرر، والله -جلَّ شأنه- قال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء: من الآية 165]، أقام الحجة على عباده، برحمته وبحكمته أخبر عباده وهم في هذه الدنيا، والفرصة متاحةٌ أمامهم، جعل الإنذار من هذا العذاب من أهم وظائف ومسؤوليات رسله وأنبيائه والهداة من عباده، وهو -جلَّ شأنه- في كتبه وآخرها القرآن الكريم، كتابه العظيم المبارك الحكيم، ذكر الكثير والكثير عن هذا العذاب، وأنذر، وحذَّر؛ ولذلك حالة خطيرة على الإنسان ألَّا ينفع فيه كل هذا التذكير، يتجه التحذير حتى لمن؟ للذين آمنوا؛ لأن البعض قد يقول: [هذا العذاب كله للكافرين الذين لم يسلموا، لم ينتموا إلى ملة الإسلام؛ أمَّا الذي ينتمي إلى الإسلام، ويقول: (أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله)، فقد أصبح من الذين آمنوا، والذين آمنوا ليس هناك عليهم عذاب، ولا هناك خطر… ولا أي شيء]. تعالوا معي لنتأمل آيةً من كتاب الله، آيةً واحدة فيها الكفاية، فيها العبرة، فيها العظة، يقول الله -جلَّ شأنه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، يوجِّه نداءه إلى مَنْ؟ إلى الذين آمنوا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم: الآية6]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، الله يخاطب الذين آمنوا وليس فقط الكافرين، يحذِّر الذين آمنوا من النار.
اقرأ في القرآن الكريم، كم ستجد من الأعمال التي يتوعد الله عليها بنار جهنم، أعمال؛ لأن المسألة تتعلق بالعمل، مجرد انتسابك للإسلام وانتمائك للإيمان لا يكفي، عندما تعمل عمل أهل النار، عندما تعمل عمل الكافرين، عندما تظلم، عندما تقتل النفس المحرمة، عندما تزني، عندما ترتكب الفاحشة، عندما تشرب الخمر، عندما تستخدم المخدرات، عندما تأكل المال الحرام، عندما تغش، عندما تقف في صف الباطل، عندما تنافق وتوالي الكافرين، عندما تخل بشيءٍ من فرائض الله -سبحانه وتعالى- عندما لا تجاهد، لا تنفق في سبيل الله، لا تعمل لإقامة دين الله، عندما تتجاهل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ}[الصف: من الآية14]، عندما تتجاهل أوامر الله -سبحانه وتعالى- بالجهاد في سبيله، {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}[التوبة: من الآية 39]، كم في القرآن الكريم من وعيد على أعمال يحذِّر من يعمل تلك الأعمال أن عقوبته عليها جهنم، وأنها ستدخله النار ولو كان ينتمي للإسلام، بل إنَّ كل ذلك الوعيد، وكل ذلك التحذير، وكل تلك التعليمات، هي تتوجه في البداية إلى المسلمين، يحذِّرهم، يخبرهم ما هو محرمٌ عليهم، ما هي المسؤوليات التي عليهم؛ ولذلك المسألة مهمة جدًّا، {قُوا أَنْفُسَكُمْ}، أنت معنيٌ بأن تقي نفسك من خلال هذا الالتزام العملي، الطاعة لله، علَّمك الله الأعمال التي تدخل بها الجنة، وتنجو بها من النار، العمل، العمل هو الأساس، هو جنتك وهو نارك، يترتب عليه كل ذلك.
الخوف من عذاب الله من أهم عوامل الاستقامة
في القرآن الكريم نرى كيف الخوف من عذاب الله حالة إيمانية، وحالة موجودة حتى عند ملائكة الله، وعند أنبيائه، وعند أوليائه الصالحين، الله -سبحانه وتعالى- قال عن ملائكته وهم الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل: من الآية 50]، قال عنهم: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}[الإسراء: من الآية 57]، الملائكة- وهي الملائكة- تخاف من عذاب الله، الأنبياء يخافون من عذاب الله، يحكي في سورة مريم عن خوفهم، عن بكائهم خوفاً من عذاب الله -سبحانه وتعالى- يقول حتى لسيد رسله وأنبيائه وخاتمهم رسول الله محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأنعام: الآية 15]، يقول عن أوليائه وهو يحكي عن واقعهم: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان: الآية 10]، يقول عن عباده المؤمنين الصادقين الذين يخشون الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون: الآية 60]، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}: لو قدَّموا ما قدَّموا، لو أنفقوا ما أنفقوا، لو عملوا ما عملوا من الأعمال الصالحة، يبقى عندهم الخوف من الله -سبحانه وتعالى- ويستشعرون رجوعهم إلى الله، ويطلبون من الله بكل تضرع أن يقبل منهم ما عملوا من الأعمال الصالحة.
الخوف من عذاب الله حالة إيجابية تساعد الإنسان على الاستقامة، على الانتباه، تفيدك في حالة الشهوات والرغبات التي قد تدفع بك إلى فعل المعصية، وإلى ارتكاب المحرم، تردك، تزجرك، حالة الخوف من عذاب الله حالة إيجابية جدًّا، الله -جلَّ شأنه- قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 40-41]، الخوف في الدنيا من عذاب الله يدفع عنك عذاب الله في الدنيا، ويدفع عنك عذابه في الآخرة، والبديل عنه يوم القيامة هو الأمن والاطمئنان في يوم الفزع الأكبر.
أولئك الذين لم يعيشوا هذه الإيجابية التي لها أهميتها عند الرغبات، ولها أهميتها عند المخاوف، كيف يؤثِّر على البعض الخوف من الأعداء، الخوف من القتل، الخوف مما بيد الأعداء من سلاح، فيجعله يتخاذل عن القيام بمسؤولياته العظيمة، عن الجهاد في سبيل الله، عن أعمال عظيمة ومهمة، عن موقف الحق، يقف البعض في صف الباطل نتيجةً لذلك، فينسى ما كان يجب عليه أن يخاف منه، ما الذي يمكن أن يكون كل ما بيد الأعداء من إمكانات، من جبروتهم، من وسائل القتل والتدمير في مقابل لحظة واحدة في جهنم والعياذ بالله، حالة الانضباط عند الغضب تحتاج فيها إلى هذا الخوف، البعض عند الغضب قد يقول أي شيء، قد يفعل أي شيء، قد يتصرف أي تصرف، لكن الذي يخاف من غضب الله، يخاف من غضب الجبار جبار السماوات والأرض؛ سينضبط، سيراجع نفسه، سيعمل على أن يسيطر على أعصابه، سيستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، سيصلي على محمد وآله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله.
حالة الخوف حالة إيجابية، الخوف من عذاب الله تساعد الإنسان على الاستقامة، على الطاعة، على المبادرة إلى العمل الذي فيه نجاته، فيه السلامة له من عذاب الله؛ أمَّا حالة النسيان فهي الحالة الخطيرة جدًّا، أولئك الذين يخسرون يصلون إلى ذلك العذاب، ماذا قال الله عنهم؟ {كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ}[المدثر: الآية 53]، قال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا}[النبأ: الآية 27]، كانوا يعيشون هذه الحالة من الغفلة، قال عنهم: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}[القيامة: 5-6]، حالة خطيرة جدًّا: الغفلة، النسيان، ومن المهم جدًّا الاستفادة في شهر رمضان من تلاوة القرآن؛ ليترسَّخ لدينا الإيمان بوعد الله ووعيده أكثر فأكثر؛ لما يساعدنا على الاستقامة والعمل الصالح، الذي فيه نجاتنا وفوزنا وأمننا يوم الفزع الأكبر.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، ونسأله أن يعتق رقابنا من ناره في هذا الشهر الكريم، أن يجعلنا من عتقائه وطلقائه ونقذائه من النار، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛