خطر الغفلة وضرورة اليقظة لتأمين المستقبل الدائم
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَلِكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عَبْدُه ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وباركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
وتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
بالأمس تحدثنا عن الواقع الذي نعيشه كبشر، وكيف أن الكثير من المجتمعات والشعوب والأمم تعتمد في مسيرة حياتها في التزاماتها العملية، وفي برامجها العملية، وفي نظامها الذي تعتمد عليه لنظم أمرها وحياتها، على ما يأتيها من توجيهات وتعليمات وخطط وأوامر من جهات، من شخصيات، من قادة، من زعماء، من ملوك، من أمراء… بحسب اختلاف هذا الجانب لدى شعبٍ إلى آخر، وما بين أمةٍ إلى أخرى، هذا هو الواقع الذي عليه البشر، والكثير من أولئك الذين يحتكم إليهم البشر، ويطيعهم الناس، ويلتزمون بتعليماتهم وتوجيهاتهم وأوامرهم من القادة والزعماء والملوك والأمراء والسلاطين، أو الجهات التي لها هذه السلطة بين قومها، أو شعبها، أو أمتها، الكثير منهم- كما قلنا- لا ينطلقون فيما ينطلقون فيه، أو فيما يقدمونه إلى أممهم أو شعوبهم من منطلق الرحمة، وعلى أساس الحكمة، وبهدف الخير وإرادة الخير لشعوبهم وأقوامهم، قد ينطلقون من موقع التسلط، ومن موقع تعزيز النفوذ والقدرة والأطماع…إلخ.
أما ما يأتينا من الله -سبحانه وتعالى– فهو يختلف كلياً، الله -سبحانه وتعالى- هو ربنا الرحيم، العظيم، الكريم، وله الكمال المطلق، هو -جلَّ شأنه- على كل شيءٍ قدير، وبكل شيءٍ عليم، وهو أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين… وهكذا عندما نأتي إلى بقية أسمائه الحسنى.
والواقع بالنسبة لنا نحن، للإنسان كإنسان، للبشر كبشر، في تفاعلهم مع ما يأتي إليهم من توجيهات، أو أوامر، أو الزامات في الواقع العملي، ما يأتيهم من خطاب أو نداء أن تفاعلهم يكون من خلال جانبين: الأول باعتبار المصدر (مصدر ما وصل إليهم)، فقد يتفاعلون مع ما وصل إليهم من توجيهات أو أوامر أو نداء باعتبار أنه أتى من جهة يعظِّمونها أو يقدسونها، ينظرون إليها بإكبار على أنها جهة تمتلك الحكمة، تمتلك المعرفة، تمتلك العلم، تمتلك القدرة، يرجون من جانبها خيراً، أو يخافون من جانبها شراً، وقد يكون أيضاً تفاعلهم باعتبار مضمون ما وصل إليهم، وما أتى إليهم، وما قدِّم إليهم، باعتبار أنه يلامس حياتهم وشؤونهم التي هي محط اهتمام عندهم، وهذا عندما يلامس ما يأتي إليهم واقعهم على مستوى الرغبات والاحتياجات، أو على مستوى الانفعالات، أو على مستوى المخاطر والتهديدات، فما وصل إليهم من هذا القبيل يتفاعلون معه، ينشدون إليه، ولا يتجاهلونه.
لماذا لا ننشد لتوجيهات من بيده ملكوت كل شيء؟
وعندما نتأمل فيما أتانا من الله -سبحانه وتعالى- من توجيهات وأوامر، إذا جئنا لنحسب أهمية ذلك بحساب المصدر: وهو الله -جلَّ شأنه- فهو على أعلى درجة من الأهمية، أعلى درجة من الأهمية، هل هناك أهم من الله -سبحانه وتعالى- أعظم من الله؟ كل الاعتبارات التي قد تجعلنا نتفاعل مع شيءٍ وصل إلينا من طرف، أو من جهة، بحسب اعتبارات معينة أنه من ملك، أو من أمير، أو من رئيس، أو من قائد، أو من زعيم، أو من حكيم، أو من عالم، أو من رحيم، أو من تاجر، أو من ثري… أو من أي طرف، بأي اعتبارٍ قد يشدنا إلى التفاعل مع ذلك الطرف؛ وبالتالي مع ما يأتينا من جانبه، كل تلك الاعتبارات لا تساوي شيئاً أمام الله -سبحانه وتعالى- رب السموات والأرض، ملك السموات والأرض، رب العالمين، الذي بيده الخير كله، بيده ملكوت كل شيء، بحساب ما نرجوه: فهل هناك شيءٌ نرجوه من الآخرين بأعظم مما نرجوه من الله، وهو الذي خلقنا، وبيده حياتنا، بيده موتنا، إليه مصيرنا، كل أمرنا بيده، يتدخل- وهو القادر -جلَّ شأنه- في كل شيءٍ أراد أن يتدخل فيه من واقع حياتنا، يملك منا ما لا نملكه من أنفسنا، يملك لنا ويملك منا في الخير والرشد أو الضر ما لا نملكه نحن بأنفسنا، ولا يملكه أحدٌ سواه لنا أو علينا، هو الذي له الدنيا والآخرة، وله العالم كله، وله الأرض ومن عليها، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، فعلى مستوى ما نرجوه، وعلى مستوى ما نخافه، وعلى مستوى التعظيم… على مستوى كل الاعتبارات، ليس هناك ما ينبغي أن يشدنا إلى الآخرين بأكثر من الله -سبحانه وتعالى- فما أعظم غفلتنا، وما أسوء تجاهلنا لما يأتينا من عند الله -سبحانه وتعالى-.
ودعوته -جلَّ شأنه- هي دعوة حق، هي دعوة خيرٍ، هي دعوة رشاد، هي دعوة فلاح؛ لأنه الغني عنا، عندما يأمرنا بشيء أو ينهانا عن شيء فلم يأمرنا بشيءٍ لأنه بحاجةٍ إليه، ولم ينهنا عن شيءٍ لأن فيه ضراً عليه، هو الغني -جلَّ شأنه- لا تنفعه طاعتنا ولا يحتاج إليها، ولا تضره معصيتنا ولا تمثل بالنسبة له مشكلة، العائد هو يتعلق بنا في الطاعة لمصلحتنا، وخيراً لنا، ومنفعةً لنا في الدنيا وفي الآخرة كذلك، أيضاً فيما ينهانا عنه، ولهذا عندما نأتي إلى دعوة الله وهو -جلَّ شأنه- قال في عنوانٍ عام: {وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}[البقرة: من الآية221]، {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ}[يونس: من الآية25]، {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى}[إبراهيم: من الآية10]، على المستوى التفصيلي فيما يدعونا إليه حينما يقول -جلَّ شأنه-: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطلاق: 2-3]، على المستوى الشخصي كم هناك من وعود في القرآن الكريم: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، أنت أنت المستفيد عندما تستجيب لله، عندما تطيع الله -سبحانه وتعالى- عندما تلتف إلى توجيهاته وأوامره، عندما تنتهي عن نواهيه، على المستوى العام كجماعة، أو كأمة، أو كشعب، أو كمجتمع، في كل المجالات، في كل جوانب وشؤون الحياة، ونحن نحتاج إلى الله في كل شيء، هو القائل -جلَّ شأنه-: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]، تكونون أنتم من تستفيدون، من تنتصرون، من تعتزون، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: من الآية8]، وهكذا عندما نأتي إلى سائر التوجيهات الإلهية: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}[الأعراف: الآية96]، النتيجة لو أنهم آمنوا واتقوا لكانت النتيجة نتيجة خير، ونتيجةً عظيمة، لمصلحتهم هم، {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، بركات واسعة في أرزاقهم، في حياتهم، في شؤونهم، في كل جوانب الخير، وكلما هو خيرٌ فيما يتصل بشؤونهم على نحوٍ واسعٍ ووافر، النتيجة عندما كذَّبوا، والتكذيب هو يتجه إلى الواقع العملي، وليس فقط الى الجحود، الجحود جانب، شكلٌ من أشكال التكذيب؛ لأنه يترتب عليه نتائج عملية سلبية، وعندما يكون أيضاً في الواقع العملي من الأساس ولهذا قال: {فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ} ماذا؟ {يَكْسِبُونَ}؛ لأن المسألة كانت في الواقع العملي، فعندما يتجه إلى الواقع العملي النتيجة تساوي نتيجة الجحود: سواءً كذَّبت بالجحود، أو كذَّبت في الواقع العملي بعدم اعتبارك لما وصل إليك من الله من توجيهات وهداية.
بين مسارين.. انظر أين تضع قدميك الآن؟
والإنسان بين حالةٍ من حالتين:
إما أن يؤسس حياته وفي مسيرة حياته- كما قلنا بالأمس، وما قبل الأمس أيضاً- أن يؤسس مسيرة حياته على أساس الارتباط بهدى الله وتوجيهاته، والاهتداء بهديه، والالتزام بتعليماته، مسيرةً إيمانية على أساسٍ من إيمانه بالله -سبحانه وتعالى- ويتحقق لهم بذلك الخير والتقوى، يقيه الله -سبحانه وتعالى-: الشرور، العذاب، الخزي، يفلح وينجو ويفوز في الدنيا والآخرة.
وإما أن ينطلق في هذه الحياة على أساس هوى نفسه وأهواء الآخرين، وينسى الله، لا يحسب حساب الله، ولا يحسب حساب تقوى الله، ويعيش حالةً من الانفلات وراء مزاج نفسه، وأهواء نفسه، ورغبات نفسه، وانفعالات نفسه، وقد يكون منتمياً- في واقع الحال- للإيمان، وهذه الحالة التي نحن عليها كمسلمين، وقد نغفل وقد ننسى؛ وبالتالي لا نستحضر مقتضى إيماننا في واقعنا العملي في كثيرٍ من الحالات، وأمام كثيرٍ من المواقف، وهنا مكمن الخطورة؛ ولهذا يذكِّرنا الله -سبحانه وتعالى- في قوله -جلَّ شأنه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر: 18-19]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كما قلنا تأتي الكثير من التوجيهات للذين آمنوا، لنا كمجتمعٍ مسلم نحسب أنفسنا من الذين آمنوا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}، فمجرد الانتماء الإيماني لا يكفي، إنما هو أساس نبني عليه في مسيرتنا العملية، في التزاماتنا العملية، لنتحرك في واقع الحياة في أعمالنا وفي التزاماتنا وفي مواقفنا على أساس تعليمات الله -سبحانه وتعالى- فنقي أنفسنا من عذابه وسخطه.
المسألة بالنسبة للإنسان إذا هو أعرض وتكبر واغتر وطغى ولم يبالِ بتوجيهات الله -سبحانه وتعالى- ورمى بها عرض الحائط، ولم يلتفت إليها، ولم يبالِ بها؛ ليست سهلة لا تنتهي المسألة. |لا| الإنسان يجعل نفسه في موقع المؤاخذة الإلهية، إن الله هو ملك السموات والأرض، ملك الناس، عزيزٌ ذو انتقام، لا يفلت الإنسان من قبضته، ولا يخرج من سلطانه لو بلغ به طغيانه ما بلغ، أو لامبالاته وتجاهله وغروره وغفلته ما بلغت، كل ذلك لا ينقذه أبداً من سطوة الله وجبروته وعذابه وعقابه، على العكس كلما طغى الإنسان، واغتر، وتجاهل، ولم يبال، واتجه وفق أهواء نفسه؛ هو يحمِّل نفسه الوزر، ويسبب لنفسه العذاب والمؤاخذة من الله -سبحانه وتعالى- على المستوى الشخصي وعلى المستوى الجماعي، مجتمعٌ معين، أمة معينة، شعبٌ معين، على مستوى أي مجتمع، على مستوى قرية، فالله -جلَّ شأنه- يقول في كتابه الكريم: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ}، عتت وتجاوزت وتعدَّت، ولم تبال بأوامر الله -سبحانه وتعالى- وبهديه وبتوجيهاته وتعليماته، فماذا كانت النتيجة؟ {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً}[الطلاق: 8-10]، فالإنسان بحاجة إلى أن يدرك أنه إن عصى الله، أنه إن تعنت وغفل ولم يبال ولم يعد يكترث لتوجيهات الله -سبحانه وتعالى- أنه يظلم نفسه، أنه يسبب لنفسه الخسارة، أنه يوقع نفسه في عذاب الله -سبحانه وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر: الآية18]، أنت فيما تعمل اليوم من أعمال، من تصرفات، قد لا تبالي بها، وقد تستهين بها، أنت تقدِّم لنفسك يوم القيامة: إما تقدِّم الخير، وإما تقدِّم الشر، ما تعمله ستجده يوم القيامة معداً لك بشكل جزاء، جزاء تجازى عليه، فلتنظر ولتفكر ولتتأمل بجدية، لا يعيش الإنسان حالة الغرور والغفلة، هي أخطر شيءٍ على الإنسان، واللامبالاة، والاتجاه في هذه الحياة وفق هوى النفس من دون انتباه، هذا تنبيه مهم، إنذار وتذكير مهم: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}، إن لم تقدِّم لنفسك العمل الذي تنجو به، تفوز به، تسلم به من عذاب الله، يمثل وقايةً لك من عذاب الله -سبحانه وتعالى- فالنتيجة هي الهلاك، لن يكفيك ولن ينفعك مجرد الانتماء الإيماني؛ لأن هذا التنبيه هو لمن؟ للذين آمنوا، لا يكفي أن ينتمي الإنسان إلى الإيمان، ثم لا يعمل ما فيه الوقاية له من عذاب الله -سبحانه وتعالى-.
الغفلة ونسيان الله أخطر شيء على الإنسان
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر: 18-19]، أخطر شيءٌ على الإنسان، أخطر شيءٌ على الإطلاق هو النسيان لله، النسيان لله ليس فقط الغفلة عن ذكر اسم الله، يعني: أنك لم تعد كثير التسبيح، وكثير الاستغفار، وكثير الدعاء، وكثير الالتفات إلى القرآن، أخطر شيءٍ في حالة النسيان ليست النسيان للذكر الذي هو عبارة عن أذكار معينة وتسبيح واستغفار ودعاء، أخطر من ذلك النسيان لله في مقام العمل، في واقع الحياة، تجاه المسؤوليات، تجاه أوامر الله ونواهيه وتوجيهاته، عندما تغفل عن الله -سبحانه وتعالى- لا تحسب حساب الله فيما أنت تعمله، وفيما أنت تتركه تجاه توجيهاته، تجاه هديه، تجاه المسؤوليات التي حمَّلك الله إياها في واقع حياتك، في مواقفك، في ولاءاتك، في عداواتك، في مسيرة حياتك، في مجالات هذه الحياة، النسيان لله في موقع العمل، في موقع المسؤولية، في واقع الحياة هو الأخطر، وذلك هو جانب من جوانب النسيان والغفلة عن الله -سبحانه وتعالى- لا تكونوا كالذين نسوا الله فانطلقوا في مواقفهم بعيداً عن الله، وبعيداً عن أوامره وتوجيهاته وهديه ونهجه، لا تكونوا كالذين نسوا الله في مواقفهم، في أعمالهم، في تحركاتهم في هذه الحياة، لم يحسبوا حساب الله، هنا الخطر، هنا وقع الكثير من الناس فانطلقوا لحسابات أخرى ودوافع أخرى، وهذا الذي عليه الكثير وللأسف الشديد حتى في واقع مجتمعنا المسلم، الكثير من الناس ينطلقون بدوافع مادية وإغراءات، أو بدافع المخاوف، أو العصبيات… الأهواء هي العنوان الواسع الذي يتحرك على أساسه الكثير من الناس، بعيداً عن الله -سبحانه وتعالى- وهنا الخطر الكبير.
أكبر وأهم جرس إنذار للإنسان
الإنسان بحاجة إلى أن يحاسب نفسه، وأن يحسب حساب مستقبله المهم، لا يبقى في حالة الغرور والغفلة حتى يأتيه الموت، الموت هو بداية الرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى- ومرجعنا جميعاً إلى الله، كل من في هذه الحياة من البشر مصيرهم إلى الله، إلى الله المصير، إليه المصير، كل أولئك المتكبرين والغافلين والمتجاهلين واللامبالين، كل الذين يعيشون في سُكْرِ الشهوة ويضيعون وراء الغفلة، وراء الشهوات، وراء الأطماع، وراء الأهواء، كل الساخرين، كل اللامبالين، كل الغافلين، البشرية بكلها مصيرها إلى الله، مرجعها إلى الله -سبحانه وتعالى- والكثير من الناس قد يصحوا، قد يستفيق، قد يستيقظ من سكر الشهوة، من حالة الغفلة، ولكن متى؟ عندما يأتي الموت، والموت هو بداية الرجوع إلى الله، بداية الاتجاه في هذا المصير إلى الله -سبحانه وتعالى- وحينها يكون قد فات الأوان، وهذا هو حال أكثر البشر، قد يعيش في حالة غفلة، لا مبالاة، سُكْرِ الشهوة، يضيع وراء اهتماماته في هذه الحياة ولا يحسب حساب الله والمصير عند الله والمستقبل عند الله -سبحانه وتعالى- أول ما يأتيه الموت ينتبه، ينتبه ولكن، ينتبه بعد فوات الأوان، هل هناك من فرصة للعمل، هل هناك من فرصة ليصحح وضعيته، ليتلافا أخطاءه، ليراجع حساباته، ويصلح عمله؟ |لا| ولهذا يذكرنا الله -سبحانه وتعالى- بهذا في قوله -جلَّ شأنه-: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ}، كل نفس، لا ملك، ولا أمير، ولا رئيس، لا تاجر، ولا قائد، ولا زعيم… ولا أي إنسانٍ كان يمكن أن يكون حالةً استثنائية من هذا، (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ) هذا هو المصير المحتوم لكل البشر، نحن أتينا بأجل ونعيش بأجل، كلٌ منا لا يدري متى ينتهي أجله، متى ستنتهي حياته، هي حياة مؤقتة، هي فرصة محدودة إذا أضاعها خسر المستقبل الأبدي والدائم, {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[آل عمران: من الآية185]، الله سيوفينا الأجور، والمستقبل الدائم والأبدي في يوم القيامة، اليوم الآتي الذي لا ريب فيه، {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}، هذه الآية- أيها الإخوة والأخوات- هذه الآية مخيفة جدًّا، هذه العبارة هي جرس إنذار كبير لكل إنسانٍ منا، {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}، عبارة مخيفة جدًّا لو نتأملها: (زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) إن المصير الذي يصير فيه وإليه أكثر الناس هو النار، لدرجة أن الحالة التي قد تخرج فيها عن هذا المصير، عن هذا الاتجاه الخطير جدًّا عُبِّر عنها في القرآن الكريم بهذا التعبير: (فَمَن زُحْزِحَ)، وكأن البعض لا يذهب ولا يبتعد ولا يخرج عن هذا الاتجاه الموصل إلى جهنم إلا زحزحه، ونعرف نحن عندما نسمع عبارة (زحزحة) إبعاد بصعوبة، نقل بصعوبة عن هذا المصير الخطير الموصل إلى النار، جرس إنذار مهم، الإنسان بحاجة إلى أن يلتفت قبل فوات الأوان، قبل مجيء الموت، إذا أتى الموت لا فرصة أبداً للإنسان، الله حكى عن حال الكثير من الناس، هذه الحالة من التحسر بعد فوات الأوان: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون: 99-100]، يتحسر ويطلب مهلةً إضافية، مهلةً لماذا؟ للعمل الصالح، العمل الصالح الذي تجاهله، وتجاهل الكثير منه مما له وزن عظيم، أجر كبير، فضل عظيم، تجارة رابحة عرضه الله عليه، دعانا حتى إلى تفصيلات عملية ذات أهمية كبيرة، ذات نتيجة إيجابية عظيمة، يقول لنا -جلَّ شأنه-: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}[الصف: 10-12]، وكم في القرآن الكريم من ترغيب ومن تنبيه على أعمال ذات قيمة عظيمة في نجاة الإنسان وفلاحه، وفوزه وتأمين مستقبله العظيم، وتجاهلها الكثير من الناس، وأضاعوا حياتهم وراء سخافات ووراء شهوات تنقضي وتنتهي، ويبقى تبعاتها من العذاب الدائم، ويسببون لأنفسهم الخسارة التي ليس مثلها خسارة ولا لها نهاية.
لننتهز الفرصة لتأمين مستقبلنا الدائم
الله -جلَّ شأنه- يقول: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}، هذا هو الفوز، عندما تؤمِّن مستقبلك الأبدي، مستقبلك الدائم، مستقبلك العظيم، أما عندما تضيع حياتك وتتحسر، فإذا جاء الموت، وسيأتي، ولابد أن يأتي لك واحدٍ منا، وكلٌ منا لا يدري متى سيأتي بالتحديد، وهي حالة نراها يومياً القوافل من البشر يرحلون في كل يوم، وستأتي هذه الحالة لكل إنسان عندما تقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، كلمة لا تفيده شيئاً، لا تعطيه الفرصة ولا ليومٍ واحد، ولا ليومٍ واحد، ولا لساعةٍ واحدة ليعمل فيها أي شيء، خلاص يقفل المجال نهائياً، تفوت الفرصة، انتهت المهلة، فما أحوجنا أن ننظر، أن نستجيب لله -سبحانه وتعالى- وهو يقول لنا: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}، لينظر كل إنسان، كل إنسان على المستوى الشخصي، ليفكر الإنسان تجاه هذا المستقبل المهم الذي هو آتٍ بلا شك، لا ريب في ذلك، ومستقبلٌ أبديٌ، ومستقبلٌ مهم، حتى لا يوقع الإنسان نفسه في الورطة والخسارة الرهيبة والأبدية والتي هي النار -والعياذ بالله- المسألة مسألة مهمة: {فَمَن زُحْزِحَ}، إذا لم تعمل لأن تتزحزح هنا في هذه الفرص التي أتاحها الله لك، فأنت توقع نفسك؛ لأن الإنسان في كثيرٍ من خطواته، في أعماله الطائشة، المنحرفة، المخالفة لتوجيهات الله -سبحانه وتعالى- هو يوقع نفسه أكثر وأكثر، على حسب تعبيرنا المحلي (يتربخ) في طريق النار، يعمل أعمالاً سيئة، يتصرف تصرفات سيئة، يفرط في مسؤوليات مهمة وفي أعمال عظيمة أمره الله بها، فهو إنما يتجه أكثر وأكثر، ويندفع أكثر وأكثر نحو الهاوية، نحو الخسارة، نحو العذاب الأليم، نحو العذاب الدائم، والله أنذرنا -سبحانه وتعالى- ونبهنا على هذا المستقبل، ونحن بواقع الإيمان، وبحسب إيماننا: نؤمن بالله، ونؤمن أنه -جلَّ شأنه- يؤاخذ ويحاسب ويعاقب ويجازي، وأن أمامنا اليوم الآخر آتٍ لا ريب فيه، نؤمن بيوم القيامة، وفي القرآن الكريم حديثٌ واسع عن اليوم الآخر، وعن يوم القيامة، وعن الحساب، وعن الجزاء، حديثٌ واسع عن الجزاء في الدنيا، وعن الجزاء الكبير والأبدي والدائم والمستقبل المهم الذي يجب أن نحسب حسابه في الآخرة، وهذا ما سنتحدث عنه- إن شاء الله- في المحاضرة القادمة.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وأياكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصر مجاهدينا بنصره، وأن يثبتهم ويؤيدهم بتأييده، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛